عطف على جملة كل نفس ذائقة الموت فإن الله لما هون بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أنهم يقولون في أنفسهم : إنا لا نخاف الموت ، ولكنا نخاف الفقر والضيعة . واستخفاف العرب بالموت سجية فيهم كما أن خشية المعرة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ، فأعقب ذلك بأن ذكرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم . وضرب لهم المثل برزق الدواب ، وللمناسبة في قوله تعالى : إن أرضي واسعة من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقا في البلاد التي يهاجرون إليها ، وهو أيضا مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله : وعلى ربهم يتوكلون ، وفي الحديث . لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا
ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون ; ضمن الله لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله ، وتوكلهم هو حق التوكل ، أي أكمله وأحزمه ، فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم .
[ ص: 25 ] وتقدم الكلام على كأين عند قوله تعالى : " وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير " في سورة آل عمران .
وقوله : وكأين من دابة لا تحمل رزقها خبر غير مقصود منه إفادة الحكم بل هو مستعمل مجازا مركبا في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين . وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدواب الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها ، وهي السوائم الوحشية ، والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله : الله يرزقها وإياكم الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله : وكأين من دابة لا تحمل رزقها ؛ ولذلك عطف وإياكم على ضمير دابة . والمقصود : التمثيل في التيسير والإلهام للأسباب الموصلة ، وإن كانت وسائل الرزق مختلفة .
والحمل في قوله : لا تحمل رزقها يجوز أن يكون مستعملا في حقيقته ، أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها ، وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض ، ويجوز أن يستعمل مجازا في التكلف له ، مثل قول جرير :
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له
أي لا تتكلف لرزقها . وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفارة ، قيل وبعض الطير كالعقعق .وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : الله يرزقها دون أن يقول : يرزقها الله ، ليفيد بالتقديم معنى الاختصاص ، أي الله يرزقها لا غيره ، فلماذا تعبدون أصناما ليس بيدها رزق .
وجملة وهو السميع العليم عطف على جملة الله يرزقها وإياكم ، فالمعنى : الله يرزقكم وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من الإخلاص لله في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم منه الرزق .