وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى روي في الحديث من طرق : أخذ من ظهر آدم ذريته ، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره ، فأقروا بذلك والتزموه ، واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان ، وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه ، وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ، ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية ، وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو متكلف في التأويل ، وأحسن ما تكلم به على هذه الآية ما فسره به ، قال : من باب التمثيل والتخييل ، ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى ، فكأنه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وقررهم ، وقال : الزمخشري ألست بربكم ، وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك ، وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله وفي كلام العرب ، ونظيره قول الله عز وجل : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ، فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ، وقول الشاعر :
[ ص: 421 ]
إذا قالت الأنساع للبطن الحقي تقول له ريح الصبا قرقار
ومعلوم أنه لا قول ثم ، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى ، وأن تقولوا مفعول له ، أي : فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن تقولوا يوم القيامة ، وتقديره : إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه ، أو كراهة أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم ; لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم ، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء ، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم ، ( فإن قلت ) : بنو آدم وذرياتهم من هم ، قلت : عني ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا : عزير ابن الله ، وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله من أخلافهم المقتدين بآبائهم ، والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى : أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عطفت عليها هي ، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها ، وذلك على قوله : واسألهم عن القرية وإذ قالت أمة منهم وإذ تأذن ربك وإذ نتقنا الجبل فوقهم واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ، انتهى كلام ، وهو بسط كلام من تقدمه ، قال الزمخشري ابن عطية : قال قوم : الآية مشيرة إلى هذا التأويل الذي في الدنيا ، وأخذ بمعنى أوجد وأن الإشهادين عند بلوغ المكلف ، وهو قد أعطي الفهم ونصبت له الصفة الدالة على الصانع ، ونحا لها ، وهو معنى تحتمله الألفاظ ، انتهى ، والقول بظاهر الحديث يطرق إلى القول بالتناسخ فيجب تأويله ، ومفعول أخذ ذرياتهم ، قاله الزجاج الحوفي : ويحتمل في قراءة الجميع أن يكون مفعول أخذ محذوفا لفهم المعنى ، وذرياتهم بدل من ضمير ظهورهم ، كما أن من ظهورهم بدل من قوله : بني آدم ، والمفعول المحذوف هو الميثاق ، كما قال : وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ، وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وتقدير الكلام : وإذ أخذ ربك من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد لله وإفراده بالعبادة ، واستعار أن يكون أخذ الميثاق من الظهر ، كأن الميثاق لصعوبته وللارتباط به والوقوف عنده شيء ثقيل يحمل على الظهر ، وهذا من تمثيل المعنى بالجزم ، وأشهدهم على أنفسهم بما نصب لهم من الأدلة قائلا : ألست بربكم ، قالوا : بلى ، وقرأ العربيان ونافع : ذرياتهم ، بالجمع ، وتقدم إعرابه ، وقرأ باقي السبعة : ذريتهم ، مفردا بفتح التاء ، ويتعين أن يكون مفعولا بأخذ ، وهو على حذف مضاف ، أي : ميثاق ذرياتهم ، وإنما كان أخذ الميثاق من ذرية بني آدم ; لأن بني آدم لصلبه لم يكن فيهم مشرك ، وإنما حدث الإشراك في ذريتهم .شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أي : قال الله : شهدنا عليكم ، أو قال الله والملائكة ، قاله ، أو قالت الملائكة ، أو شهد بعضهم على بعض أقوال ، ومعنى " عن هذا " عن هذا الميثاق والإقرار بالربوبية . السدي
أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم المعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ، ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان ، إحداهما : كنا غافلين ، والأخرى : كنا أتباعا لأسلافنا ، فكيف نهلك والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا ؟ فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج ، وقرأ أبو عمرو : أن يقولوا ، بالياء على الغيبة ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب .
أفتهلكنا بما فعل المبطلون هذا من تمام القول الثاني ، أي : كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا ، والمعنى أنه تعالى أزال عنهم الاحتجاج بتركيب العقول فيهم وتذكيرهم ببعثة الرسل إليهم ، فقطع بذلك أعذارهم .