هذا ما يتبادر إلى الفهم من توجيه التفضيل في الحب ، تدل عليه حالة يوسف وسابق قصته ولاحقها بغير تكلف ولا تحكم ، كما هو دأبنا في كل ما تفسر به هذه القصة وغيرها ، وهو يصدق في جعل اسم التفضيل هنا لا مفهوم له أو على غير بابه كما يقال ، فليس المراد أن ما يدعوني إليه محبوب عندي والسجن أحب إلي منه ، وإنما معناه أن هذين الأمرين إذا تعارضا وكان لا بد من أحدهما ، فالسجن آثر وأولى بالترجيح ؛ لأن ما فيه من المشقة له فائدة عاجلة ، وعاقبة صالحة ، وأما مجاهدة هؤلاء النسوة مع المكث معهن ، فهو أشق على المؤمن العارف بربه ، وليس له من الفائدة والعاقبة ما للسجن ، فهو - أي اسم التفضيل - من قبيل قول المحدثين في بعض الأحاديث الضعيفة : هو أصح ما في هذا الباب ، يعنون : أقوى ما فيه وإن كانت كلها غير صحيحة ، بل هو كقوله الآتي : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) 39 .
وقيل : يجوز أن يكون المراد من التفضيل ترجيح الأحب بمقتضى الإيمان وحكم الشرع على المحبوب بمقتضى الغريزة وداعية الطبع ، فإن الأنبياء والصلحاء كسائر البشر يحبون النساء ويشتهون الاستمتاع بهن ، ولكنهم يكرهون أن يكون من غير الوجه المشروع وشره الاعتداء على نساء الناس . ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للفقراء : رواه ( ( وفي بضع أحدكم صدقة ) ) قالوا يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : ( ( أرأيتم إذا وضعها في حرام كان عليه وزر ؟ كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) ) مسلم من حديث أبي ذر .
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله حيث لا ظل إلا ظله في موقف القيامة : ( ( ) ) وهو حديث متفق عليه . ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب إلى نفسها فقال إني أخاف الله
وذلك بأن للمرأة ذات المنصب سلطانا على قلب الرجل فوق سلطان الوضيعة في طبقتها ، وإن كانت جميلة الصورة ، فيثقل على طبعه وتضعف إرادته أن يرد طلبها ، فكيف بها إذا جمعت بين سلطان الجمال وسلطان المنصب ثم ذلت له ودعته إلى نفسها ؟
[ ص: 246 ] ( فإن قيل ) : إن المرأة إذا ابتذلت نفسها فبذلتها للرجل بذلا ، وتحول دلها عليه مهانة وذلا ، فإنه يحتقرها ، وتتحول رغبته فيها رغبة عنها ، وكلما تمنعت عليه ازداد حبا لها وشوقا إليها ، كما قال الشاعر :
منعت شيئا فأكثرت الولوع به أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
( قلنا ) : نعم إن هذا مقتضى الطبع السليم ، كما أن رد ذات الجمال والمنصب من ضعف الرجل أمام المرأة ، ولكن المراودة قلما تبلغ من هؤلاء حد الوقاحة في الصراحة فتكون منفرة ، وقد علمت أنها احتيال ومراوغة لتحويل الإرادة ، وإن لنساء الأكابر في الأمصار التي أفسدتها الحضارة كيدا فيها وخداعا ، وإن لأستاذهن الشيطان مسالكا من إغوائهن والإغواء بهن يحز أقوى الرجال تجاهها صريعا ، ولكن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان ، وعناية ربهم بهم تغلب غوايته ومكر النسوان ، وقد لجأ يوسف - عليه السلام - إلى هذه العناية ، إذ عرض له كيد بضع نسوة من ذوات الجمال والمنصب لا بضاعة لهن إلا أبضاعهن ، فقال : ( وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن ) يعني : إن لم تحول عني ما ينصبنه لي من شراك الكيد ، ويمددنه من شباك الصيد ، لم أسلم من الصبوة إليهن ، وهي الميل إلى موافقتهن على أهوائهن ، يقال : صبا يصبو صبوا وصبوة إذا مال إلى اللهو وما يطيب للنفس من اتباع الهوى ، ومنه ريح الصبا وهي التي تهب على بلاد العرب من مشرق الشمس ، لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها ، حتى إن تغزل شعرائهم بها ليضاهي تغزلهم بعشيقاتهم رقة وصبابة ، ولا سيما إذا اقترفا وامتزجا كقول بعضهم :
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه فقد كاد رياها يطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه إذا هب كان الوجد أيسر خطبه
( وأكن من الجاهلين ) أي من صنف السفهاء الذين تستخفهم أهواء النفس فيعملون السوء بجهالة ، وهي ما يخالف مقتضى الحلم والأناة ، أو مقتضى العلم والحكمة ، فإن من [ ص: 247 ] يعيش بين أمثال هؤلاء النسوة الماكرات المترفات - مثلي - لا مفر له من الجهل إلا بعصمتك وحفظك بما هو فوق الأسباب المعتادة ، وهذا نص صريح منه - عليه السلام - بأنه ما صبا إليهن ، ولا أحب أن يعيش معهن ، وإنما بين مقتضى الاستهداف لكيد هؤلاء النساء ، وسأل ربه أن يديم له ما وعده في قوله : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء 24 .
فاستجاب له ربه ما دعاه به وطلبه منه ، الذي دل عليه هذا الابتهال والالتجاء إليه وطوى ذكره إيجازا فصرف عنه كيدهن فلم يصب إليهن ، فيحتاج إلى جهاد نفسه لكفها عن الاستمتاع بهن ، وعصمه أن يكون ( ( من الجاهلين ) ) باتباع هواهن ( إنه هو السميع المجيب ) لمن أخلص له الدعاء ، جامعا بين مقامي الخوف والرجاء ، العليم بصدق إيمانهم ، وما يصلح من أحوالهم ، فعطف استجابة ربه له ، وصرف كيدهن عنه بالفاء الدالة على التعقيب ، وتعليلها بأنها مقتضى كمال صفتي السمع والعلم ، دليل على أن ربه - عز وجل - لم يتخل عن عنايته بتربيته ، أقصر زمن يهتم فيه بأمر نفسه ومجاهدته ، ومؤيد لقوله - تعالى - في أول سياق هذه الفتنة : ( والله غالب على أمره ) 21 .
( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ) بدا هذه من البداء ( بالفتح ) لا من البدو المطلق ، أي ثم ظهر لهم من الرأي ما لم يكن ظاهرا من قبل ، ومنه كلمة سيدنا علي البليغة ( ( فما عدا مما بدا ) ) أي فما عداك وصرفك عما كنت فيه مما بدا لك الآن وكان خفيا عنك قبله ، ولذلك عطفت الجملة بـ ( ثم ) التي تفيد الانتقال مما كانوا فيه إلى طور جديد بعد التشاور والتروي في الأمر ، وضمير لهم يرجع إلى أهل دار العزيز وامرأته ومن يعنيه أمرهما كالشاهد الذي شهد عليها من أهلها ، والمراد بـ ( الآيات ) ما شهدوه واختبروه من الدلائل على أن يوسف إنسان غير الأناسي التي عرفوها في عقيدته وإيمانه وأخلاقه ، من عفة ونزاهة واحتقار للشهوات والزينة والإتراف المتبع في قصور هذه الحضارة ، ومن عناية ربه الواحد الأحد به كما يؤمن ويعتقد ، فمن هذه الآيات : أن تفتن سيدته في مراودته ، ولم يحدث أدنى تأثير في جذب خلسات نظره ، ولا في خفقات قلبه ، بل ظل معرضا عنها متجاهلا لها ، حتى إذا ما صارحته بكلمة هيت لك اقشعر جلده ، واستعاذ بربه ، رب آبائه الذين يفتخر باتباع ملتهم ، وعيرها بالخيانة لزوجها .
( ومنها ) أنها لما غضبت وهمت بالبطش به هم بمقاومتها والبطش بها وهي سيدته ، وما منعه من ذلك إلا ما رأى من البرهان في دخيلة نفسه . مؤيدا لما يعتقده من صرف ربه السوء والفحشاء عنه .
( ومنها ) أنها لما اتهمته بالتعدي عليها وأرادوا التحقيق [ ص: 248 ] في المسألة شهد شاهد من أهلها هو جدير بالدفاع عنها ، بما تضمن الحكم عليها بأنها كاذبة في اتهامها إياه بإرادة السوء بها ، وأنه صادق فيما ادعاه من مراودتها إياه عن نفسه .
( ومنها ) مسألة انتشار خبرها معه وخوض نساء المدينة في افتتانها به وإذلال نفسها ببذلها له مع إعراضه عنها .
( ومنها ) مسألة مكر هؤلاء النسوة وأعمقهن كيدا معه ، إذ حاولن رؤيته وتواطأن عن مراودته ودهشتهن مما شاهدن من جماله ، حتى قطعن أيديهن بدلا مما في أيديهن وهن لا يشعرن .
فجميع هذه الآيات تثبت أن بقاءه في هذه الدار بين ربتها وصديقاتها من هؤلاء النسوة مثار فتنة للنساء لا تدرك غايتها ، وأن الحكمة والصواب في أمرها هو تنفيذ رأيها الأول في سجنه - وإن كانت سيئة النية ماكرة فيه - لإخفاء ذكره ، وكف ألسنة الناس عنها في أمره ، ( فأقسموا ليسجننه حتى حين ) أي إلى أجل غير معين ، حتى يكونوا مطلقي الحرية في طول مكثه وقصره وإخراجه ، ويروا ما يكون من تأثير السجن فيه وحديث الناس عنه . وهذا القرار يدل على أن هذه المرأة كانت مالكة لقياد زوجها الوزير الكبير ، تقوده بقرنيه كيف شاء هواها ، وأنه كان فاقدا للغيرة كأمثاله من كبراء الدنيا صغار الأنفس عبيد الشهوات ، وقد أعجبني فيه قول على قلة ما أعجبني من أقوال المفسرين في هذه القصة التي شوهتها عليهم الروايات الإسرائيلية المخترعة والعناية بإعرابها ؛ قال في تفسير ما رأوا من الآيات : وهي الشواهد على براءته ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه في الذروة والغارب وكان مطواعا لها ، وجملا ذلولا زمامه في يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات ، وعمل برأيها في سجنه لإلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته ، وطمعت في أن يذلله السجن ويسخره لها . ا هـ . الزمخشري
[ ص: 249 ] وجملة القول في هذه الحادثة أن يوسف - عليه السلام - كان أكمل مثل للعفة والصيانة والأمانة من أولها إلى آخرها ، وهي في سفر التكوين ناقصة ومخالفة لما هنا في دعوى المرأة ، والله أعلم من مؤلف سفر التكوين المجهول بما كان وبما ينفع الناس .