حتى تغتسلوا أي : لا تقربوا الصلاة جنبا إلا بأدائها ، ولا بالمكث في مكانها إلى أن تغتسلوا إلا ما رخص لكم فيه من عبور السبيل في المسجد ، وحكمة الاغتسال من الجنابة كحكمة الوضوء وهي النظافة والطهارة كما سيأتي في آية الوضوء من سورة المائدة ، ولهاتين الطهارتين فوائد صحية وأدبية سنبينها هنا بالتفصيل إن شاء الله تعالى ، ، ومن شأن الجنابة أن تحدث تهيجا في المجموع العصبي فيتأثر بها البدن كله ويعقبها فتور ، وضعف فيه يزيله الماء ; ولذلك جاء في الحديث الصحيح : والاغتسال عبارة عن إفاضة الماء على البدن كله رواه إنما الماء من الماء مسلم .
وقد جهل هذا من اعترض على حكمة التشريع ، وقال : لو كان الدين موافقا للعقل لما أوجب في الجنابة إلا غسل أعضاء التناسل ، فأوجب الله تعالى فيما جعله غاية للنهي عن صلاة الجنب أن يتحرى الإنسان في صلاته النظافة والنشاط ، كما أوجب فيما جعله غاية للنهي عن صلاة السكران أن يتحرى فيها العلم والفهم وتدبر القرآن والذكر ، ويتوقف هذا على معرفة لغة القرآن فهي واجبة على كل مسلم ـ كما تقدم ـ وهذا شيء من حكمة مشروعية الغسل .
ولما كان الاغتسال من الجنابة يتعسر في بعض الأحوال ، ويتعذر في بعضها ومثله الوضوء ، وكانت الصلاة عبادة محتومة وفريضة موقوتة لا هوادة فيها ولا مندوحة عنها ; لأنها بتكرارها تذكر المرء إذا نسي مراقبة الله تعالى فتعده للتقوى ، بين لنا سبحانه ، فقال : الرخصة في ترك استعمال الماء ، والاستعاضة عنه بالتيمم وإن كنتم مرضى أو على سفر طويل أو قصير ، والشأن فيهما تعسر استعمال الماء ، ولا سيما في الحجاز وغيره من جزيرة العرب ، وقد يكون الماء ضارا بالمريض كبعض الأمراض الجلدية والقروح أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء أي : أو أحدثتم حدثا أصغر ، وهو خروج شيء من أحد السبيلين ـ القبل والدبر ـ وعبر عنه بالمجيء من الغائط كناية كما هي سنة القرآن في النزاهة بالكناية عما لا يحسن التصريح به ، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض كالوادي ، وأهل البوادي والقرى الصغيرة يقصدون بحاجتهم الأماكن المنخفضة لأجل الستر ، والاستخفاء عن الأبصار ، ثم صار لفظ الغائط حقيقة عرفية في الحدث لكثرة الاستعمال ، ويكنى عن الحديث في المدن الآهلة [ ص: 97 ] التي تتخذ فيها الكنف بكنايات أخرى ، وملامسة النساء : كناية عن غشيانهن والإفضاء إليهن ، وحقيقة اللمس المشترك من الجانبين ولو باليد فهو كالمباشرة ، وحقيقتها إصابة البشرة للبشرة ، وهي ظاهر الجلد ، وقرأ حمزة " أو لمستم " ولا تنافي قراءتهما ذلك التجوز المشهور ، وقال والكسائي : إن الآية تدل على الشافعي ، وبه قال نقض الوضوء بلمس بشرة النساء إلا المحارم منهن الزهري والأوزاعي فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم أي : ففي هذه الحالات : المرض والسفر وفقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل تيمموا صعيدا طيبا ، أي اقصدوا وتحروا مكانا ما من صعيد الأرض ، أي : وجهها طيبا ، أي طاهرا لا قذر فيه ولا وسخ ، فامسحوا هناك وجوهكم وأيديكم ، تمثيلا لمعظم عمل الوضوء فصلوا ، فقيد فلم تجدوا ماء للجائي من الغائط وملامس النساء على مذهب من يجعل القيد بعد الجمل للأخيرة ، ومذهب من يجعله للجميع إلا أن يمنع مانع ، والمانع هنا : أنه لا يظهر وجه لاشتراط فقد الماء لتيمم المريض ، والمسافر دون الصحيح والمقيم .
الأستاذ الإمام : المعنى أن كحكم المحدث حدثا أصغر ، أو ملامس النساء ولم يجد الماء فعلى كل هؤلاء التيمم فقط ، هذا ما يفهمه القارئ من الآية نفسها إذا لم يكلف نفسه حملها على مذهب من وراء القرآن يجعلها بالتكلف حجة له منطبقة عليه ، وقد طالعت في تفسيرها خمسة وعشرين تفسيرا فلم أجد فيها غناء ، ولا رأيت قولا فيها يسلم من التكلف ، ثم رجعت إلى المصحف وحده فوجدت المعنى واضحا جليا ، فالقرآن أفصح الكلام وأبلغه وأظهره ، وهو لا يحتاج عند من يعرف العربية ـ مفرداتها وأساليبها ـ إلى تكلفات فنون النحو وغيره من فنون اللغة عند حافظي أحكامها من الكتب مع عدم تحصيل ملكة البلاغة ـ إلى آخر ما أطال به في الإنكار على المفسرين الذين عدوا الآية مشكلة ; لأنها لم تنطبق على مذاهبهم انطباقا ظاهرا سالما من الركاكة وضعف التأليف ، والتكرار التي يتنزه عنها أعلى الكلام وأبلغه ، وإذا كان رحمه الله قد راجع خمسة وعشرين تفسيرا رجاء أن يجد فيها قولا لا تكلف فيه ، فأنا لم أراجع عند كتابة تفسيرها إلا روح المعاني وهو آخر التفاسير المتداولة تأليفا ، وصاحبه واسع الاطلاع فإذا به يقول : " الآية من معضلات القرآن " ، ووالله إن الآية ليست معضلة ولا مشكلة ، وليس في القرآن معضلات إلا عند المفتونين بالروايات والاصطلاحات ، وعند من اتخذوا المذاهب المحدثة بعد القرآن أصولا للدين يعرضون القرآن عليها عرضا ، فإذا وافقها بغير تكلف أو بتكلف قليل فرحوا وإلا عدوها من المشكلات والمعضلات ; على أن القاعدة القطعية المعروفة عمن أنزل عليه القرآن ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم أن القرآن هو الأصل الأول لهذا الدين ، وأن حكم الله يلتمس فيه أولا فإن وجد فيه يؤخذ ، وعليه يعول ولا يحتاج معه إلى مأخذ آخر ، [ ص: 98 ] وإن لم يوجد التمس من سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، على هذا أقر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذا حين أرسله إلى حكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة اليمن ; وبهذا كان يتواصى الخلفاء والأئمة من الصحابة والتابعين ، وقد رأى القارئ أن معنى الآية واضح في نفسه لا تكلف فيه ولا إشكال ، ولله الحمد .
سيقول أدعياء العلم من المقلدين : نعم إن الآية واضحة المعنى كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم ، ولكنها تقتضي عليه أن جائز ، ولو مع وجود الماء ، وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا ، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أولئك الفقهاء المحققين ويعقل أن يخالفوها من غير معارض لظاهرها أرجعوها إليه ، ولنا أن نقول لمثل هؤلاء ـ وإن كان المقلد لا يحاج ؛ لأنه لا علم له ـ وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلا مشكلا ؟ وأي الأمرين أولى بالترجيح : آلطعن ببلاغة القرآن وبيانه لحمله على كلام الفقهاء ، أم تجويز الخطأ على الفقهاء ؛ لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف ، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر التي منها قصر الصلاة وجمعها وإباحة الفطر في رمضان ، فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء ، وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين ؟ أليس من المجرب أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء في هذا الزمان الذي سهلت فيه أسباب السفر في قطارات السكك الحديدية والبواخر ؟ أفلا يتصور المنصف أن المشقة فيهما أشد على المسافرين على ظهور الإبل في مفاوز التيمم في السفر الحجاز وجبالها ؟ هل يقول منصف : إن صلاة الظهر ، أو العصر أربعا في السفر أسهل من الغسل أو الوضوء فيه ؟ السفر مظنة المشقة يشق فيه غالبا كل ما يؤتى في الحضر بسهولة ، وأشق ما يشق فيه الغسل والوضوء ، وإن كان الماء حاضرا مستغنى عنه ، واضرب لهم مثلا هذه الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ، فإن الماء فيها كثير دائما وفي كل باخرة منها حمامات ، أي : بيوت مخصوصة للاغتسال بالماء السخن والماء البارد ، ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يسافرون في الدرجة الأولى أو الثانية ، وهؤلاء الأغنياء منهم من يصيبه دوار شديد يتعذر عليه معه الاغتسال أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر ، فإذا كانت هذه السفن التي يوجد فيها من الماء المعد للاستحمام ما لم يكن يوجد مثله في بيت أحد من أهل المدينة زمن التنزيل يشق فيها الاغتسال أو يتعذر ، فما قولك في الاغتسال في قطارات سكك الحديد أو قوافل الجمال أو البغال ؟
ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن ، التي هي أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام ، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص ، وعليه مدار الأحكام ، واحتمال ربط قوله تعالى : فلم تجدوا ماء بقوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر بعيد ، بل ممنوع ألبتة ـ كما تقدم ـ على أنهم لا يقولون به في المرضى ؛ لأن اشتراط فقد الماء في حقهم لا فائدة له ؛ لأن الأصحاء مثلهم فيه ، فيكون ذكرهم [ ص: 99 ] لغوا يتنزه عنه القرآن ، ونقول : إن ذكر المسافرين كذلك ، فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم بالإجماع ، فلولا أن السفر سبب للرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة ; ولذلك عللوه بما هو ضعيف متكلف ، وما ورد في سبب نزولها من فقد الماء في السفر ، أو المكث مدة على غير ماء لا ينافي ذلك ، رووا " لعائشة ، فأقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على التماسه والناس معه وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فأغلظ أبو بكر على عائشة ، وقال : حبست رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فنزلت الآية ، فلما صلوا بالتيمم جاء إلى مضرب أسيد بن حضير عائشة ، فجعل يقول : ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر " رواه الستة ، وفي رواية : أنها نزلت في بعض أسفار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد انقطع فيها عقد عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا فهذه الرواية ، وهي من وقائع الأحوال لا حكم لها في تغيير مدلول الآية ، ولا تنافي جعل الرخصة أوسع من الحال التي كانت سببا لها ، ألا ترى أنها شملت المرضى ، ولم يذكر في هذه الواقعة أنه كان فيها مرضى شق عليهم استعمال الماء على تقدير وجوده ، وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدا للماء ، ولا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل التيمم فيها خاصا بفاقدي الماء دون غيرهم ، ومثلها سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء التي هي عمدة الفقهاء على أنها منقولة بالمعنى ، وهي وقائع أحوال مجملة لا تنهض دليلا ، ومفهومها مفهوم مخالفة ، وهو غير معتبر عند الجمهور ولا سيما في معارضة منطوق الآية ، وإننا نرى رخصة قصر الصلاة قد قيدت بالخوف من فتنة الكافرين كما سيأتي في هذه السورة ، ونرى هؤلاء الفقهاء كلهم لم يعملوا فيها بمفهوم هذا الشرط المنصوص الذي كان سبب الرخصة ، أفلا يكون ما هنا أولى بألا يشترط فيه شرط ليس في كتاب الله ؟ وروي في سبب النزول أيضا أن الصحابة نالتهم جراحة وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنزلت ، وروي أيضا أنها نزلت فيمن اغتسل في السفر بمشقة وسيأتي . يرحمك الله تعالى يا
وإذا ثبت أن التيمم رخصة للمسافر بلا شرط ، ولا قيد بطلت كل تلك التشديدات التي توسعوا في بنائها على اشتراط فقد الماء ، ومنها ما قالوه من وجوب طلبه في السفر ، وما وضعوه لذلك من الحدود كحد القرب وحد الغوث ، وأذكر أنني عندما كنت أدرس شرح المنهاج في فقه الشافعية قرأت باب التيمم في شهرين كاملين لم أترك الدرس فيهما ليلة واحدة ، فهل ورد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أحد الصحابة تكلم في التيمم يومين أو ساعتين ؟ وهل كان هذا التوسع في استنباط الأحكام والشروط والحدود سعة ورحمة على المؤمنين أم عسرا وحرجا عليهم وهو ما رفعه الله عنهم ؟ .