[ ص: 177 ] المسألة العاشرة : : الاستدلال بالآية على بطلان القياس
استدل بعض الظاهرية بالآية على بطلان القياس ، كما استدل بها غيرهم على إثباته وقد تقدم ، ووجه هؤلاء أن الله تعالى أمر برد المتنازع فيه إلى الله والرسول ، أي : إلى نصوص الكتاب والسنة ، ولو كان القياس مشروعا لقال : فإن تنازعتم في شيء فقيسوه على أشباهه أو نحوا من هذا ، والصواب أنها ليست نصا أصوليا في إثبات القياس كما قال الرازي وغيره ، ولا في منعه كما قال هؤلاء ، أما كونها ليست نصا في مشروعية القياس ، فلما بيناه من جواز التنازع مع وجود النص قبل علم المتنازعين به ، فإذا تحروا رد المسألة إلى الكتاب والسنة بغير طريق القياس ، وأما كونها ليست نصا على منعه فلأن ما لا نص فيه إذا حمل على مماثله من الأحكام الثابتة مع علتها بالنص يصدق عليه أنه رد إلى ذلك النص .
نعم ، إنها تدل على بطلان القياس على أقوال الفقهاء ـ وإن كانوا مجتهدين ـ كما نراه كثيرا في كتب الفقه ، يقولون : هذا جائز أو حرام أو واجب قياسا على قولهم كذا ، ومثله القياس بالعلل المنتزعة عن بعد بالتمحل الذي يوجد في النص ما ينفيه ولا يوجد ما يثبته ، ومنه قياس الدم على البول في نقض الوضوء عند بعض الفقهاء ، ولو كان هذا قياسا صحيحا لمضت به السنة وتوفرت فيه النصوص لكثرة الوقائع فيه في العصر الأول ; لأن الدماء كانت تسيل كثيرا من جميع تلك الأجساد الطاهرة ؛ دفاعا عن الدين والنفس وإعلاء لكلمة الحق ، وفي السنة ما يدل على بطلان هذا القياس وهو التفرقة بين الحيض والاستحاضة ، وقد قاس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة رضي الله عنهم وتبعهم من بعدهم .
ولا يعارض ثبوت القياس العمل بالبراءة الأصلية ، وكون الأصل في الأشياء الإباحة كما هو ظاهر ، فإن قيل : إن القياس في الدين باطل بنص الأحاديث والقرآن ، أما الأحاديث فمنها حديث : رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، وفي معناه أحاديث كثيرة في الصحيحين والسنن ، ورواية أبي هريرة أحمد ومسلم بلفظ : وحديث : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم قال إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها النووي في الأربعين : حديث حسن رواه وغيره . الدراقطني
فإن هذه الأحاديث تدل على أن الدين لا يؤخذ إلا من نص الشارع ، وأن من مقاصد الحنيفية السمحة ألا تكون تكاليفها كثيرة ، فتكثيرها بقياس المسكوت عنه على المنصوص مخالف لما أراده الله فيها من اليسر ، ولنصوص هذه الأحاديث المأخوذة من عموم القرآن ; إذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان إلا مبينا [ ص: 178 ] للقرآن في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ( 5 : 101 ، 102 ) ، والتعبير بالعفو وتأكيده بالمغفرة والحلم مما يدل على أن المسكوت عنه قد يكون شبيها بالمنصوص ، بحيث لو سئل عنه حين كان ينزل القرآن ـ أي وقت شرع الدين لكان الجواب إلحاقه بالمنصوص وزيادة التكليف به ، وإنما سكت الله عنه عفوا منه تعالى ورحمة بنا ، ولنفاة القياس أن يقولوا : وإذا كان الأمر كذلك فالقياس باطل ، وتفسير رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله به باطل .
والجواب : أن الآية والأحاديث خاصة بأمر الدين المحض من العبادات والحلال والحرام بحيث يزيد فيها عبادة ، أو يحرم شيئا لا يدل النص على تحريمه ، وهذا هو الذي تجرأ عليه الكثيرون من المسلمين الذين هم ليسوا أهلا للاجتهاد والقياس ، فكم قالوا ـ ولا نزال نسمعهم يقولون ـ هذا حرام وهذا حلال ، بما تصف ألسنتهم الكذب والتهجم على شرع ما لم يأذن به الله ، وإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى كلام هؤلاء المقلدين ، حتى إن من يأخذ الإسلام عنهم يراه غير الحنيفية السمحة المبنية على أساس اليسر وموافقة الفطرة ، يراه دينا لا يكاد يحتمل من شدة الضيق والعسر وكثرة التكاليف ، والله ورسوله بريئان من كل هذه الزيادات ، وأما القياس الذي قد تدل الآية على الإذن به فهو ما يتعلق بأحكام المعاملات القضائية والسياسية والإدارية التي فوض الله تعالى الاجتهاد فيها إلى أولي الأمر ; لأنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة ، ولا يمكن استيفاء كل ما يحتاج إليه منها بالنصوص .