الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5535 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنكم محشورون حفاة عراة غرلا " ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ، " وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وإن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصيحابي أصيحابي فيقول : إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم . فأقول أي قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله : العزيز الحكيم . متفق عليه .

التالي السابق


5535 - ( وعن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنكم محشورون ) أي : ستبعثون ( حفاة ) : بضم الحاء جمع حاف وهو الذي لا نعل له ( عراة ) : بضم العين جمع عار وهو من لا ستر له ( غرلا ) : بضم الغين المعجمة وسكون الراء ، جمع الأغرل ، وهو الأقلف أي غير مختونين . قال العلماء : في قوله : غرلا إشارة إلى أن البعث يكون بعد رد تمام الأجزاء والأعضاء الزائلة في الدنيا إلى البدن ، وفيه تأكيد لذلك ، فإن القلفة كانت واجبة الإزالة في الدنيا ، فغيرها من الأشعار والأظفار والأسنان ونحوها أولى ، وذلك لغاية تعلق علم الله تعالى بالكليات والجزئيات ، ونهاية قدرته

[ ص: 3514 ] بالأشياء الممكنات ، ( ثم قرأ ) أي : استشهادا ، واعتضادا ، وقوله تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده : الكاف متعلق بمحذوف دل عليه نعيده أي نعيد الخلق إعادة مثل الأول ، والمعنى : بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا ، كذا نعيدهم يوم القيامة وعدا علينا أي : لازما لا يجوز الخلف فيه إنا كنا فاعلين أي ما وعدناه وأخبرنا به لا محالة .

قال الطيبي - رحمه الله : فإن قلت : سياق الآية في إثبات الحشر والنشر ; لأن المعنى نوجدكم عن العدم ، كما أوجدناكم أولا عن العدم ، فكيف يستشهد بها للمعنى المذكور ؟ قلت : دل سياق الآية وعبارتها على إثبات الحشر ، وإشارتها على المعنى المراد من الحديث ، فهو من باب الإدماج . قلت : الظاهر أن الآية بعبارتها تدل على المعنيين وإن كان سياق الآية مختصا لأحدهما ، فإن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ثم في قوله : نوجدكم من العدم مسامحة ، والله أعلم . ( وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ) : عليه الصلاة والسلام ، قيل : لأنه أول من كسا الفقراء ، وقيل : لأنه أول من عري في ذات الله حين ألقي في النار ، لا لأنه أفضل من نبينا ، أو لكونه أباه فقدمه لعزة الأبوة ، على أنه قيل : إن نبينا يخرج في الناس من قبره في ثيابه التي دفن فيها ، وعندي - والله تعالى أعلم - أن الأنبياء ، يقومون من قبورهم حفاة عراة ، لكن يلبسون أكفانهم بحيث لا تكشف عوراتهم على أحد ، ولا على أنفسهم ، وهو المناسب لقوله - صلى الله عليه وسلم : ( أخرج من قبري وأبو بكر عن يميني وعمر عن يساري وآتي البقيع ) الحديث . ثم يركبون النوق ونحوها ، ويحضرون المحشر ، فيكون هذا الإلباس محمولا على الخلع الإلهية ، والحلل الجنتية ، على الطائفة الاصطفائية ، وأولية إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - يحتمل أن تكون حقيقية ، أو إضافية ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

ثم رأيت في الجامع الصغير حديث : " أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة من حلل الجنة ، ثم أقوم عن يمين العرش ، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري " . رواه الترمذي عن أبي هريرة ، ورواه الترمذي والحاكم عن ابن عمر : " أنا أول من تنشق عنه الأرض ، ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي ، ثم أنتظر أهل مكة " . وقال التوربشتي - رحمه الله : نرى أن التقدم بهذه الفضيلة إنما وقع لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لأنه أول من عري في ذات الله حين أرادوا إلقاءه في النار ، فإن قيل : أوليس نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو المحكوم له بالفضل على سائر الأنبياء ، وتأخره في ذلك موهم أن الفضل للسابق ؟ قلنا : إذا استأثر الله سبحانه عبدا بفضله على آخر ، واستأثر المستأثر عليه على المستأثر بتلك الواحدة بعشر أمثالها أو أفضل كانت السابقة له ، ولا يقدح استئثار صاحبه عليه بفضيلة واحدة في فضله ، ولا خفاء بأن الشفاعة حيث لا يؤذن لأحد في الكلام لم تبق سابقة لأولي السابقة ، ولا فضيلة لذوي الفضائل إلا أتت عليها ، وكم له من فضائل مختصة به لم يسبق إليها ، ولم يشارك فيها . ( وإن ناسا من أصحابي ) أي : جماعة منهم ، والتنكير للتقليل ( يؤخذ بهم ذات الشمال ) أي : إلى النار مع أصحاب المشأمة ( فأقول : أصيحابي ) : بالتصغير للتقليل ، أي : هؤلاء أصحابي ( أصيحابي ! ) : كرره تأكيدا ، ويمكن أن يكون إشارة إلى جماعتين ، ( فيقول ) أي : قائل أو مجيب ( إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم ) .

قال القاضي - رحمه الله : يريد بهم من ارتد من الأعراب الذين أسلموا في أيامه ، كأصحاب مسيلمة ، والأسود وأضرابهم ، فإن أصحابه ، وإن شاع عرفا فيمن يلازمه من المهاجرين والأنصار ، شاع استعماله لغة في كل من تبعه ، أو أدرك حضرته ووفد عليه ولو مرة . قلت : الأول اصطلاح أصول الفقه ، والثاني مصطلح أهل الحديث . وقيل : أراد بالارتداد إساءة السيرة ، والرجوع عما كانوا عليه من الإخلاص ، وصدق النية ، والإعراض عن الدنيا . أقول : هذا بالإشارات الصوفية أنسب وأقرب ، وإلا فعبارة الارتداد غير مستقيمة على هذا المعنى أصلا ، ولا موافقة لقوله - عليه الصلاة والسلام : ( فأقول كما قال العبد الصالح ) : وهو عيسى - عليه الصلاة والسلام : وكنت عليهم أي : على أمتي شهيدا أي : مطلعا رقيبا حافظا ما دمت فيهم أي : موجودا فيما بينهم ( إلى قوله : العزيز الحكيم ) : وهو قوله : فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( متفق عليه ) ، ورواه الترمذي .

[ ص: 3515 ]



الخدمات العلمية