الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5661 - وعن الشعبي ، قال : لقي ابن عباس - رضي الله عنهما - كعبا بعرفة ، فسأله عن شيء ، فكبر حتى جاوبته الجبال . فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين قال مسروق : فدخلت على عائشة ، فقلت : رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد تكلمت بشيء .

قف له شعري ، قلت : رويدا ، ثم قرأت : لقد رأى من آيات ربه الكبرى فقالت : أين تذهب بك ؟ إنما هو جبريل . من أخبرك أن محمدا رأى ربه أو كتم شيئا مما أمر به أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث فقد أعظم الفرية ، ولكنه رأى جبريل ، لم يره في صورته إلا مرتين : مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة في أجياد له ستمائة جناح قد سد الأفق
. رواه الترمذي .

وروى الشيخان مع زيادة واختلاف ، وفي روايتهما : قال : قلت : لعائشة :

فأين قوله : ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى قالت : ذاك جبريل عليه السلام ، كان يأتيه في صورة الرجل ، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته ، فسد الأفق .


التالي السابق


5661 - ( وعن الشعبي ) بفتح فسكون ، تابعي جليل قال : ( قال : لقي ابن عباس كعبا بعرفة ، فسأله ) أي كعبا ( عن شيء ، فكبر ) أي كعب ( حتى جاوبته الجبال ) . قال الطيبي - رحمه الله - أي كبر تكبيرة مرتفعا بها صوته حتى جاوبته الجبال صدى ، كأنه استعظم ما سأل عنه ، فكبر لذلك ، ولعل ذلك السؤال رؤية الله تعالى كما سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها ، فقف لذلك شعرها . قلت : الظاهر كلام كعب الآتي من إثباته الرؤية في الجملة يأبى عن هذا المعنى ، وأن يكون نحو ما صدر من عائشة رضي الله تعالى عنها في المبنى ، فالوجه أن يحمل التكبير على تعظيم ذلك المقام ، والتشوق إلى ذلك المرام ، لكنه لم يرد عليه جواب الكلام . ( فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم ) أي فيجب تعظيمنا وتكليمنا وتفهيمنا ( فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ) . عليهما الصلاة والسلام ، وقال الطيبي - رحمه الله - : وأما قوله : إنا بنو هاشم ، فبعث له على التسكين من ذلك الغيظ والتفكر في الجواب ، يعني نحن أهل علم ومعرفة ، فلا نسأل عما يستبعد هذا الاستبعاد ، ولذلك فكر فأجاب بقوله : إن الله . . . إلى آخره . أقول : هذا لا يخلو عن بعد ؛ إذ لا دلالة في الحديث على ثبوت غيظ له ، ولا على تحقق فكر فيه ، مع أن تيقن هذه المسألة لا تتحصل بفكر ساعة مع اعتقاد مدة مديدة على خلافها . ( فكلم ) أي الله تعالى ( موسى مرتين ) ، أي في الميقاتين ( ورآه محمد ) عليه السلام أي في المعراج ( مرتين ) . كما يدل عليه قوله سبحانه : ولقد رآه نزلة أخرى فهذا يدل على أن مذهب كعب على أن الضمير في رآه إلى الله لا إلى جبريل ، بخلاف قول عائشة ، لكن لا دلالة فيه على أنه برؤية البصيرة أو البصر على أن قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى يؤيد المعنى الأول ؛ ولذا صح عن ابن عباس أنه رآه بفؤاده مرتين على ما تقدم ، والله تعالى أعلم .

( قال مسروق : فدخلت على عائشة ) رضي الله تعالى عنها ، ظاهره أنه كان حاضرا في مجلس كعب وابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وسمع ما جرى بينهما . ( فقلت : هل رأى محمد ربه ) ؟ أي بالعين أو بالفؤاد .

[ ص: 3609 ] ( فقالت ) استعظاما لهذا السؤال ( لقد تكلمت بشيء ) وفي نسخة : كلمت ، لكنه ليس بشيء ؛ لأنه يحتاج إلى القول بزيادة الباء في بشيء ( قف ) بفتح القاف وتشديد الفاء أي قام من الفزع ( له ) أي لذلك الشيء من الكلام ( شعري ) أي شعر بدني جميعا ، وهذا لما حصل عندها من عظمة الله وهيبته واعتقدته من تنزيهه واستحالة وقوع ذلك ( قلت : رويدا ) ، أي ارفقي وأمهلي ، والمقصود تسكينها والملاءمة في تليينها حتى يقدر على السؤال والجواب معها . ( ثم قرأت : لقد رأى من آيات ربه الكبرى : ظاهر هذه الآية لا يناسب مدعى مسروق ، بل قال بعض المفسرين : إنها المعينة لما رأى فيما سبق من قوله : ما كذب الفؤاد ما رأى ، فهو نقيض مطلوبه ؛ ولذا قال الطيبي - رحمه الله - أي قرأت الآيات التي خاتمتها هذه الآية ، كما تشهد له الرواية الأخرى . أعني قوله : قلت لعائشة : فأين قوله : ثم دنا . أقول : مع بعده ليس في الرواية الأخرى لفظ رأى ، فالأظهر أنه أراد بالكبرى الآية العظمى على عظمة شأنه تعالى ، أو على تعظيم جنابه - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقصد بها الرؤية البصرية أو الفؤادية . ( فقالت : أين تذهب بك ) ؟ أي الآية يعني فهمها .

قال الطيبي - رحمه الله - : أي أخطأت فيما فهمت من معنى الآية ، وذهبت إليه ، فإسناد الإذهاب إلى الآية مجاز ، انتهى . أو أين تذهب بك الآية الكبرى ( إنما هو ) أي الآية الكبرى ( جبريل ) . فذكر الضمير باعتبار الخبر ، ومما يدل على أنه الآية الكبرى وما سيأتي عنها أن له ستمائة جناح قد سد الأفق ، ويؤيده أيضا قولها : ( من أخبرك أن محمدا رأى ربه ) وظاهره أنها تنفي رؤيته تعالى مطلقا غير مقيد بالفؤاد أو بالبصر ، ( أو كتم شيئا مما أمر به ) أي بإظهاره ، كما يدل عليه قوله تعالى : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وهو يعم الكتمان عن الجميع أو عن البعض ، فيرد الاعتقاد الفاسد للشيعة في اختصاص أهل البيت ببعض الأحكام الشنيعة ، وفيه إيماء إلى أنه لو تحقق له رؤية الله تعالى بنوع من الأنواع لبينه وأظهره للحاجة في تفسير الآية إليه ، وقد قال تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث أي إلى آخر ( مفاتيح الغيب ) ولعلها أرادت بإيراد هذه الآية المبالغة في نفي الرؤية ، وأنها بمنزلتها في الفرية ؛ ولهذا قالت في جزاء الكل من الشرطيات ( فقد أعظم الفرية ) ، بكسر الفاء أي الكذب الذي هو بلا مرية ( ولكنه رأى جبريل ) ، أي في صورته الأصلية ( لم يره في صورته إلا مرتين : مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة في أجياد ) بفتح همزة وسكون جيم ، موضع معروف بأسفل مكة من شعابها ( له ستمائة جناح ، قد سد الأفق . رواه الترمذي ) .

( ورواه الشيخان مع زيادة واختلاف ) ، أقول : فكان الأولى إيراد روايتهما ، فهو تعريض من صاحب المشكاة للاعتراض على صاحب المصابيح ، ( وفي روايتهما . قال ) أي مسروق ، قلت : لعائشة : فأين قوله :

[ ص: 3610 ] ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) يعني فإن الظاهر المتبادر أن ضمير " دنا " إلى الله وضمير " فتدلى " إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أو بالعكس كما سبق ، وكذا ضمير " فكان " إلى أحدهما ، وقد قال بعده : فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى وبما قررنا يتم استشكال مسروق . ( قالت : ذاك ) أي مرجع الضمير في الكل ( جبريل عليه الصلاة والسلام ) ، أي لا الرب سبحانه في هذا المقام ، ثم استأنف لبيان دفع ما عسى أن يقال : إنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يرى جبريل عليه الصلاة والسلام دائما ، فما وجه تخصيص ذكر رؤيته في هذا المقام ؟ فقالت : ( كان ) أي جبريل ( يأتيه في صورة الرجل ) أي متشكلا بشكله ، وغالبا بصورة دحية ( وإنه أتاه هذه المرة ) أي في أجياد ( في صورته التي هي صورته ) ، أي الأصلية ( فسد الأفق ) ، أي على نحو ما رآه في ليلة المعراج في صورته الأصلية على وجه التحقيق ، هذا وكان ابن عباس أخذ بقول كعب ، واختاره أنه رآه مرتين على احتمال أن الرؤية بعين البصر أو البصيرة ، أو إحداهما بهذه والأخرى بأخرى ، مع الاتفاق على أنه لم يره بعينه مرتين ، والله تعالى أعلم .

وأما نفي عائشة ، فيحتمل أن يحمل على الإطلاق ، أو يقيد بنفي البصر وجواز رؤيته بالفؤاد ، والظاهر هو الأول ، فتدبر وتأمل . قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر ، وإثباته على رؤية القلب ، لا مجرد العلم ؛ لأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان عالما به تعالى على الدوام ، وأن الرؤية التي حصلت له خلقت له في قلبه ، كما تخلق الرؤية بالعين لغيره ، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا ، ولو جرت العادة بخلقها في العين .




الخدمات العلمية