الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
965 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى ، والنعيم المقيم ، فقال : " وما ذاك ؟ " قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم ، إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ " .

قالوا : بلى يا رسول الله قال : " تسبحون ، وتكبرون ، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة " ، قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ، ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
" ، متفق عليه ، وليس قول أبي صالح إلى آخره إلا عند مسلم ، وفي رواية للبخاري : " تسبحون في دبر كل صلاة ، وتحمدون عشرا ، وتكبرون عشرا " بدل : " ثلاثا وثلاثين " .

التالي السابق


965 - ( وعن أبي هريرة قال : إن فقراء المهاجرين ) : من أرباب الصفة وغيرهم ، ولفظ الأربعين : إن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : من فقراء المهاجرين ( أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد ذهب أهل الدثور ) : بضم الدال ، جمع دثر بفتح الدال ، وسكون الثاء : وهو المال الكثير ، ( بالدرجات العلى ) ، أي : العالية ، والباء للتعدية ، وقال الطيبي : للمصاحبة أي : ذهب أهل الأموال بالدرجات العلى ، واستصحبوها معهم في الدنيا والعقبى ، ولم يذروا لنا شيئا فما حالنا ؟ ( والنعيم المقيم ) ، أي : وبالعيش الدائم وهو الجنة ، والمراد به زيادة النعمة في مقابلة زيادة الطاعة ، قال الطيبي : وفيه تعريض بالنعيم العاجل فإنه على وشك الزوال ، ( " قال : " وما ذاك ؟ " ) ، أي : ما سببه ( " قالوا : " ) ، لأنهم ( " يصلون كما نصلي " ) ، أي : فرضا ونفلا ( ويصومون كما نصوم ) : ولفظ " ما " كافة تصحح دخول الجار على الفعل ، وتفيد تشبيه الجملة بالجملة كقولك : يكتب زيد كما يكتب عمرو ، أو مصدرية ، كما في قوله تعالى : بما رحبت ، أي : صلاتهم مثل صلاتنا وصومهم مثل صومنا ، ( ويتصدقون ) : وفي الأربعين : بفضول أموالهم ، أي : بزوائدها ، ويترجحون علينا في الثواب وليس لنا مال ، ( ولا نتصدق ) : وقول ابن حجر : ويجاهدون كما نجاهد ، ويزيدون علينا بأنهم يتصدقون ونحن لا نتصدق موهم أن جملة : ويجاهدون كما نجاهد لفظ الحديث ، وليس كذلك ، ( ويعتقون ولا نعتق ) : لأنهما يتعلقان بالمال ، ولا مال لنا ، فلهم فضل علينا بزيادة العبادات المالية ، ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفلا أعلمكم " ) : قدمت الهمزة للصدارة ، والتقدير : ألا أسليكم أفلا أعلمكم ، ( " شيئا تدركون به من سبقكم " ) ، أي : من متقدمي الإسلام عليكم من هذه الأمة ، أو تدركون به كمال من سبقكم من الأمم ، وفي المصابيح بلفظ : " من قبلكم " ، أي : في الثواب ( " وتسبقون به من بعدكم " ) ، أي : تسبقون به أمثالكم الذين لا يقولون هذه الأذكار ، فتكون البعدية بحسب الرتبة ، كذا قاله ابن الملك يعني : يقيد الكلام بالوصف المقدر ، بمعونة السياق والسباق واللحاق ، ويحتمل أن يكون إدراكهم من سبقهم ، وسبقهم من بعدهم يكون ببركة وجوده عليه السلام ، وكونهم من قرنه الذي هو خير القرون ، والله أعلم .

وقال ابن حجر : أي من متأخري الإسلام عنكم ، أو الوجود عن عصركم ، قال ميرك : إن قلت : لم لا يحصل لمن بعدهم ثواب ذلك ؟ قلنا : إلا من صنع مثل ما صنعتم استثناء منه أيضا ، كما هو مذهب الشافعي في أن الاستثناء المتعقب للجمل عائد إلى كلها ، فقوله : إلا من صنع أي : إلا الغني الذي يسبح ، فإنكم لم تكونوا خيرا منه ، بل هو خير منكم أو مثلكم ، نعم إذا قلنا الاستثناء يرجع إلى الجملة الأولى أيضا يلزم قطعا كون الأغنياء أفضل ، إذ معناه إن عملتم به أدركتم من سبقكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ، فإنكم لا تدركونه .

فإن قلت : فالأغنياء إذ سبحوا يترجحون فيبقى مجاله ما شكا الفقراء منه ، وهو رجحانهم من جهة التصدق والإعتاق ، وسائر ما يحصل لهم بسبب إنفاق الأموال ، قلت : مقصود الفقراء تحصيل الدرجات العلى والنعيم المقيم لهم ، لا نفي زيادتهم مطلقا ، وفيه أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر ، كذا أفاده العلامة الكرماني في شرحه للبخاري ، وفيه بحث ; لأن قوله : " فرجع فقراء المهاجرين " يدل على أن مقصود الفقراء نفي رجحان الأغنياء عليهم مطلقا ، وعلى أنهم لم يحملوا الاستثناء على أنه راجع إلى الجملة الأولى ، وإلا لم يكن لسؤالهم صورة تأمل ، ( " ولا يكون أحد " ) ، أي : من الأغنياء ; لأن الكلام فيهم ، وقال ابن حجر : من الأغنياء وغيرهم في زمن من الأزمنة ، ( " أفضل منكم ، إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ " ) .

[ ص: 764 ] قال الطيبي : فإن قلت : ما معنى الأفضلية في قوله : " لا يكون أحد أفضل منكم " ، مع قوله : " إلا من صنع مثل ما صنعتم " ; فإن الأفضلية تقتضي الزيادة ، والمثلية تقتضي المساواة ؟ قلت : هو من باب قوله :

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس يعني : إن قدر أن المثلية تقتضي الأفضلية ، فتحصل الأفضلية ، وقد علم أنها لا تقتضيها ، فإذن لا يكون أحد أفضل منكم ، هذا على مذهب التميمي ، ويحتمل أن يكون المعنى ليس أحد أفضل منكم إلا هؤلاء ، فإنهم يساوونكم ، وأن يكون المعنى بأحد الأغنياء ، أي : ليس أحد من الأغنياء أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ، ( قالوا : بلى ) ، أي : علمنا ذلك ( يا رسول الله ! قال : " تسبحون ، وتكبرون ، وتحمدون " ) : إخبار بمعنى الأوامر ، أو من قبيل : " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " ، ( " دبر كل صلاة " ) ، أي : مكتوبة ( " ثلاثا وثلاثين مرة " ) : قال الطيبي : يحتمل أن يكون المجموع ثلاثا وثلاثين ، وأن يكون كل واحد منها يبلغ هذا العدد ، وهذا هو المختار الظاهر من الحديث الآخر ، ويؤيد الأول رواية البخاري أن كل واحد عشر اهـ ، الأنسب التأييد برواية مسلم ، عن أبي هريرة إحدى عشرة ، إحدى عشرة ، إحدى عشرة ، فذلك كله ثلاث وثلاثون .

( قال أبو صالح ) ، أي : راوي أبي هريرة ( فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ) : بدل ، وفائدة البدل إشعار بأن ذلك غبطة لا حسد ( بما فعلنا ) : ضمن سمع معنى الإخبار ، فعدي بالباء ( ففعلوا مثله ) ، أي : مثل ما فعلنا وإطلاق الفعل على القول شائع سائغ ، ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك " ) ، أي : الزائد من الثواب الذي حصل لهم على الجود بأموالهم منضما إلى فعلهم ما فعله الفقراء ، ( " فضل الله يؤتيه من يشاء " ) : قال الطيبي : إشارة إلى أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر ، نعم لا يخلو الغني من أنواع من الخطر ، والفقير الصابر آمن اهـ .

قال الإمام حجة الإسلام في إحياء العلوم : " واعلم أن الناس قد اختلفوا ، فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى فضل الفقر ، وقال ابن عطاء : الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر ، ويقال : إن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا ، فأصابته محنة " ، ثم قال : إن الفقر والغنى إذا أخذا مطلقا لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر ، ولا بد فيه من تفصيل فنقول : إنما يتصور الشك في مقامين ، أحدهما : فقير صابر ليس بحريص على الطلب ، بل هو قانع وراض بالإضافة إلى غني منفق ماله في الخيرات ، ليس حريصا على إمساك المال .

الثاني : فقير حريص مع غني حريص ; إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص الممسك ، وأن الغني المنفق ماله في الخيرات أفضل من الفقر الحريص ، أما الأول فربما يظن أن الغنى أفضل من الفقر ، لأنهما تساويا في ضعف الحرص على المال ، والغني متقرب بالصدقات والخيرات ، والفقير عاجز عنه ، وهذا هو الذي ظنه ابن عطاء فيما نحسبه ، فأما الغني المتمتع بالمال ، وإن كان في مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير القانع ، وقد يشهد له ما روي [ ص: 765 ] " في الخبر : إن الفقراء شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات والحج والجهاد ، فعلمهم كلمات في التسبيح ، وذكر لهم أنهم ينالون بها ما فوق ما ناله الأغنياء ، فعلم الأغنياء بذلك ، فكانوا يقولونه فعادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال عليه السلام : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " قال : " وفيه نظر ; لأن الخبر قد ورد مفصلا تفصيلا يدل على خلاف ذلك ، وهو أن ثواب الفقير في التسبيح يزيد على ثواب الغني ، وأن فوزهم بذلك الثواب فضل الله يؤتيه من يشاء .

فقد روى زيد بن أسلم ، عن أنس بن مالك قال : بعث الفقراء [ رسولا ] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني رسول الفقراء إليك ، فقال : " مرحبا بك وبمن جئت من عندهم جئت من عند قوم أحبهم الله " ، قال : قالوا : يا رسول الله ! إن الأغنياء ذهبوا بالجنة ، يحجون ولا نقدر عليه ، ويعتمرون ولا نقدر عليه ، وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلغ عن الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء ، أما خصلة واحدة فإن في الجنة غرفا ينظر إليها أهل الجنة ، كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبي فقير ، أو شهيد فقير ، أو مؤمن فقير .

والثانية : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام ، والثالثة : إذا قال الغني : [ سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ] ، وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير ، ولو أنفق فيها عشرة آلاف درهم ، وكذلك أعمال البر كلها " ، فرجع إليهم فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : رضينا رضينا ، فهذا يدل على أن قوله : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
" ، أي : مزيد ثواب الفقراء على ذكرهم اهـ ، كلامه .

وفي المسألة أقوال أخر ، منها : أن الكفاف أفضل منهما ، ومنها : أن الفقير الشاكر أفضل من الغني الشاكر ، ومنها : أن التسليم والرضا تحت القضاء بحكم المولى في الفقر والغنى هو الأفضل ، ولذا قال عمر - رضي الله عنه - : الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيهما أركب ، وقال تعالى : إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا نعم اختار الله الفقر لأكثر أنبيائه وأوليائه وأصفيائه ، واختار الغنى لأكثر أعدائه ، وقليل من أحبائه ، فاختر ما هو المختار ، أو اختر أن لا تختار ، فإن ربك يفعل ما يشاء ويختار ، ( متفق عليه ) : قال ميرك : فيه نظر ; لأن قوله : يتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق " من إفراد مسلم .

( وليس قول أبي صالح إلى آخره إلا عند مسلم ) : قال ميرك : الأحسن أن يقول المصنف بعد قوله : " وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين " ، متفق عليه ، وزاد مسلم : قال أبو صالح إلخ ، ( وفي رواية للبخاري ) : قال ميرك : ورواه النسائي ( " تسبحون دبر كل صلاة عشرا ، وتحمدون عشرا ، وتكبرون عشرا " بدل : ثلاثا " ) : نصب على الحكاية ( " وثلاثين " ) .

[ ص: 766 ]



الخدمات العلمية