الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2266 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى قال : " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته ، ولا بد له منه " ( رواه البخاري ) .

التالي السابق


2266 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : إن الله تعالى قال : من عادى ) : أي : آذى ( لي وليا ) : أي : واحدا من أوليائي فعيل بمعنى مفعول ، وهو : من تولى الله أمره فلا يكله إلى نفسه لحظة قال الله تعالى : وهو يتولى الصالحين أو لمبالغة فاعل ، وهو المتولي عبادة الله وطاعته على التوالي بلا تخلل عصيان ، والأول يسمى : مرادا ومجذوبا سالكا ، والثاني : مريدا وسالكا مجذوبا ، واختلف أيهما أفضل ، وفي الحقيقة كل مراد مريد ، وكل مريد مراد ، وإنما التفاوت في البداية والنهاية ، والعناية والرعاية ( فقد آذنته ) : بالمد أي : أعلمته ( بالحرب ) : أي : بمحاربتي إياه لأجل وليي ، أو بمحاربته أي يعني : فكأنه محارب لي ، قال تعالى : فأذنوا بحرب من الله ورسوله وهذا يدل على ما في هاتين الخصلتين من عظم الخطر ، إذ محاربة الله للعبد تدل على سوء خاتمته ، لأن من حاربه الله لا يفلح أبدا . ( وما تقرب إلي عبدي ) : أي : المؤمن وآثره ؛ لأن من شأن العبد التقرب إلى سيده لأنواع خدمته وأصناف طاعته ( بشيء ) : من الأعمال ( أحب إلي مما افترضت ) : أي : من أداء ما أوجبت ( عليه ) [ ص: 1545 ] أي : من امتثال الأوامر واجتناب الزواجر ، وقوله : ( أحب ) يقتضي أن تكون وسائل القرب كثيرة ، وأحبها إلى الله أداء الفرائض ، فيندرج فيها النوافل ولذا قال : ( وما يزال عبدي ) : أي : القائم بقرب الفرائض ( يتقرب ) : أي : يطلب زيادة القرب ( إلي بالنوافل ) أي : بقرب الطاعات الزوائد على الفرائض ( حتى أحببته ) : وفي نسخة : حتى أحبه ، أي : حبا كاملا لجمعه بين الفرائض والنوافل ، خلاف ما يوهم كلام الطيبي أن قوله : ما يزال بيان أن حكم بعض المفضل عليه الذي هو النافلة هذه المثابة ، فما الظن بالمفضل الذي هو الفرائض ؟ ( فكنت سمعه ) : وفي نسخة صحيحة : فإذا أحببته كنت سمعه وقال ابن حجر : والذي في الأصول المشهورة : حتى أحببته فكنت سمعه ، ( الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ) : بضم الياء ( ويده التي يبطش بها ) : بكسر الطاء أي : يأخذ ( بها ورجله التي يمشي بها ) .

قال الخطابي : أي : يسرت عليه أفعاله المنسوبة إلى هذه الآلات ، ووفقته فيها ، حتى كأني نفس هذه الآلات ، وقيل : أي : يجعل الله حواسه وآلاته وسائل إلى رضائه فلا يسمع إلا ما يحبه الله ويرضاه ، فكأنه يسمع به إلخ . وقيل : أي : يجعل الله سلطان حبه غالبا عليه حتى لا يرى إلا ما يحبه الله ، ولا يسمع إلا ما يحبه ، ولا يفعل إلا ما يحبه ، ويكون الله سبحانه في ذلك له يدا وعونا ووكيلا يحمي سمعه وبصره ويده ورجله عما لا يرضاه . وقيل : معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع ، وبصره في النظر ، ويده في اللمس ، ورجله في المشي ، ويمكن أن يكون المعنى إذا تقرب إليه بما افترض عليه ، وزاد في التقرب بالنوافل المكملات للفرائض ، ومن جملتها دوام الذكر الموصل إلى حضور الوصول ، وسرور الحصول ، ومقام الفناء عن نفسه ، والبقاء بربه ، ظهر له آثار محبته الأزلية وانكشف له أنوار قربته الأبدية ، فرأى أن ما به من الكمال من السمع والبصر وقوة القوى إنما هو من آثار سمعه وبصره وقدرته وقوته ، وأما هو فعدم محض فلا يرى في الدار غيره ديار .

وقال ابن حجر : فلا يسمع شيئا ولا يبصر ولا يبطش ولا يمشي ، إلا وشهد أني الموجد لذلك والمقدر له ، فيصرف جميع ما أنعمت به عليه إلى ما خلق لأجله من طاعتي ، فلا يستعمل سمعه وغيره من مشاعره إلا فيما يرضيني ويقربه مني ، فلا يتوجه لشيء إلا وأنا منه بمرأى ومسمع ، فأنا له عين ويد ورجل وعون ووكيل وحافظ ونصير ، كما هو جلي عند أئمة العرفان دون غيرهم ، إذ لا يؤمن عليهم لضيق العبادة عما يوهم لغير ذوي الإشارة من الأغاليط التي هي الحلول والاتحاد والانحلال عن رابطة الشرع الملجئة إلى مضايق الضلال .

ومن هذا يتضح لك قاعدة مهمة وهي : أن ما أشكل عليك من عبارات الأولياء فإن أمكن تأويلها فبادر إليه كقول أبي يزيد : ليس في الجبة غير الله ، فإن لم يمكن فإن صدرت في مقام غيبة فلا حرج على قائلها ؛ لأنه غير مكلف حينئذ ، وكذا إن وقع الشك في ذلك ، وإن صدرت مع تحقق صحوه أقيم عليه حكمها الشرعي ، إذ الولي ليس بمعصوم ، والمحفوظ ربما فرط منه ما عوتب به ثم عاد إليه حاله ( وإن سألني لأعطينه ) : بالتأكيد ، وفي التعبير ( بأن ) دون ( إذا ) إيماء إلى أنه قد يصل إلى مقام يترك فيه السؤال اتكالا على علمه بالحال ، أو لأنه لا يطلب غير الملك المتعال ( ولئن استعاذني ) : قال العسقلاني : ضبطناه بوجهين الأشهر بالنون بعد الذال المعجمة ، والثاني بالموحدة ( لأعيذنه ) : أي : مما يخاف من البعد ( وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ) : وفي نسخة : عن قبض نفس المؤمن ، وقال ابن حجر : كما في رواية قيل : التردد هو التخير بين أمرين لا يدرى أيهما أصلح ، وهو محال على الله سبحانه ، فأولوه على ترديد الأسباب والوسائط ، وجعلوا قصة موسى - عليه الصلاة والسلام - مع ملك الموت سندا لقولهم ، وقيل : المراد من لفظ التردد إزالة كراهة الموت عن المؤمن . مما يبتليه الله به من المرض والفاقة وغيرها ، فأخذه المؤمن عما تشبث به من حب الحياة شيئا فشيئا بالأسباب التي ذكرنا يشبه فعل المتردد من حيث الصفة ، فعبر عنه بالتردد .

وقال القاضي : التردد تعارض الرأيين وترادف الخاطرين ، وهو وإن كان محالا في حقه تعالى إلا أنه أسند إليه باعتبار غايته ومنتهاه الذي هو التوقف والتأني في الأمر ، وكذلك في سائر ما يسند إلى الله تعالى من صفات [ ص: 1546 ] المخلوقين كالغضب والحياء والمكر ، والمعنى ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن ، أتوقف فيه وأريه ما أعددت له من النعم والكرامات حتى يسهل عليه ويميل قلبه إليه شوقا إلى أن ينخرط في سلك المقربين ، ويتبوأ في أعلى عليين ( يكره الموت ) : استئناف جوابا عما يقال : ما سبب التردد ؟ والمراد أنه يكره شدة الموت بمقتضى طبعه البشري ؛ لأن نفس الموت تحفة المؤمن يوصله إلى لقاء الله ، فكيف يكرهه المؤمن ؟ ( وأنا أكره مساءته ) : قال ابن الملك : أي : إيذاءه بما يلحقه من صعوبة الموت وكربه ، وقال ابن حجر : أي : أكره ما يسوءه ؛ لأني أرحم به من والديه ، لكن لا بد له منه لينتقل من دار الهموم والكدورات إلى دار النعيم والمسرات ، فعلته به إيثارا لتلك النعمة العظمى والمسرة الكبرى ، كما أن الأب الشفوق يكلف الابن بما يكلفه من العلم وغيره ، وإن شق عليه نظرا لكماله الذي يترتب على ذلك ا هـ . وهو خلاصة كلامالطيبي .

وحاصل كلامهم أن إضافة المساءة مزج باب إضافة المصدر إلى مفعوله ، وفيه أنه لو كرهه تعالى لما وجد في الخارج ، إذ وجود الأشياء بقدرته وهو متوقف على إرادته ، ولا مكره له تعالى في إبداء مصنوعاته ، فالظاهر أن الإساءة مضافة إلى فاعله ، وهو لا ينافي إرادته ، كما حقق في محله الفرق بين المشيئة والإرادة والرضا والكراهة ، فإن بعض المراد مكروه غير مرضي ، بالمعنى أكره مساءته لكراهته الموت ، فإنه لا ينبغي أن يكره الموت بل يحبه ، فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، وفي نسخة صحيحة : ولا بد له منه . وكذا في أصل ميرك ، وهو كذا في شرح المصابيح لابن الملك ، وقال ابن حجر كما في رواية : والمعنى ، ولا بد للمؤمن من الموت فلا معنى للكراهة ، أو ولهذا لا أدفع عنه الموت ، قال تعالى : فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ( رواه البخاري ) : قيل : آخر الحديث في كتاب البخاري ، والحميدي ، وجامع الأصول ، وشرح السنة ، وليس فيها : ( فإذا أحببته ) كما في نسخ المصابيح ، ولا زيادة لفظ ( قبض ) عند قوله : عن قبض نفس المؤمن ، ولا قوله : ولا بد له منه في آخر الحديث ، والمذكورات وردت في حديث روى أنس نحوه في شرح السنة .




الخدمات العلمية