الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2347 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين ، أحدهما مجتهد في العبادة ، والآخر يقول : مذنب ، فجعل يقول : أقصر عما أنت فيه ، فيقول : خلني وربي . حتى وجده يوما على ذنب استعظمه . فقال : أقصر ، فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك أبدا ، ولا يدخلك الجنة ، فبعث الله إليهما ملكا ، فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عنده ، فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ فقال : لا يا رب . قال : اذهبوا به إلى النار " . رواه أحمد .

التالي السابق


2347 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن رجلين كانا في بني إسرائيل ) أي : منهم أو من غيرهم ( متحابين ) أي : في الدنيا أو لأمر ما ، لا في الله لعدم المناسبة والملاءمة بين المطيع والعاصي والجنسية علة الضم . قال تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ويمكن أنهما كانا متحابين أولا ، ثم وقع أحدهما في المعصية ، وهو الأظهر ، ثم تم عقد الأخوة والعمل بالنصيحة ، وهو أولى عند بعض الصوفية من قطع الحصبة لقوله تعالى : فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون حيث لم يقل منكم ، مع أنه يمكن أن يكون منكم مقدرا ، ومما تعملون علة للبراءة ، كما ذهب إليه بعضهم ، وهو الظاهر من حديث الحب في الله والبغض في الله ، وحمل الحديث على الابتداء خلاف ظاهر الإطلاق . ( أحدهما مجتهد ) أي : مبالغ ( في العبادة ، والآخر يقول ) : قال الطيبي أي : الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( مذنب ) أي : هو مذنب . وقال ابن الملك تبعا للمظهر أي : يقول الآخر : أنا مذنب أي معترف بالذنب ، وهو الأظهر لقوله : ( يقول ) فإنه ليس له زيادة فائدة على القول الأول ، وحينئذ لا يحتاج إلى حسه المقابلة بأن يقال أي مجتهد في المعصية ، حيث قال الطيبي : يمكن أن يقال : إن المعنى والآخر منهمك في الذنب ليطابق قوله : مجتهد في العبادة ، لأن القول كثيرا ما يعبر به في الأفعال المختلفة بحسب المقام . اهـ . وفيه أنه لا دخل للقول حينئذ في المقام ، كما لا يخفى على ذوي الأفهام ، فالظاهر أن العدول عن قوله : والآخر مذنب بإدخال ( يقول ) بينهما ، لأن ينسب القول إليه مراعاة للأدب معه ، لعلمه - عليه الصلاة والسلام - بأنه سعيد عند ربه في غفران ذنبه ، ولهذه النكتة بعينها قال : مجتهد ولم يقل صالح أو عابد . ( فجعل ) أي : طفق وشرع المجتهد ( يقول ) أي : للمذنب ( أقصر ) : أمر من باب الأفعال أي أمسك وامتنع ، وفي رواية : أقصر أقصر ( عما أنت فيه ) أي : من الذنب ( فيقول : ) أي : الآخر ( خلني وربي ) أي : اتركني معه ، فإنه غفور رحيم ، وتكرر هذا الكلام والجواب ( حتى وجده ) أي : المجتهد المذنب ( يوما ) أي : وقتا ما ( على ذنب استعظمه ) أي : المجتهد ذلك الذنب ( فقال : أقصر ، فقال : خلني وربي ، أبعثت ) : بصيغة المجهول بالاستفهام الإنكاري أي أرسلك الله ( علي رقيبا ؟ ) أي : حافظا ( فقال ) أي المجتهد من كمال غروره وعجبه ، وحقارة صاحبه لارتكاب عظيم ذنبه ( والله لا يغفر الله لك أبدا ، ولا يدخلك الجنة ) أي : من غير سابقة عقوبة ، فهو مبالغة غاية المبالغة ، وأما قول ابن حجر : تأكيد لما قبله ، لأن عدم الغفران لازم لعدم دخول الجنة فغير صحيح ; لأن المؤمن المذنب قد لا يغفر الله له فيعذبه ثم يدخله الجنة ، كما عليه أهل السنة . ( فبعث الله إليهما ملكا ، فقبض ) أي : أرواحهما ( عنده ) أي : في محل حكمه ، وهو البرزخ أو تحت عرشه ( فقال للمذنب : ادخل الجنة برحمتي ) أي : جزاء لحسن ظنك بي ( وقال للآخر ) : وفي العدول عن التعبير بالمجتهد نكتة لا تخفى ، وهي أن اجتهاده في العبادة ضاع لقلة علمه ومعرفته بصفات ربه ، فانقلب الأمر وصار في الذنب كالآخر ، والمذنب بحسن عقيدته واعترافه بالتقصير في معصيته نزل منزلة المجتهد ( أتستطيع ) : الهمزة للإنكار أي : أتقدر ( أن تحظر ) : بضم الظاء المعجمة ، أي : تمنع وتحرم ( على عبدي رحمتي ؟ ) أي : التي وسعت كل شيء في الدنيا ، وخصت للمؤمنين في العقبى ( فقال : لا يا رب ) : اعترف حين لا ينفعه الاعتراف ( قال ) أي : الرب ( اذهبوا به ) : خطابا للملائكة الموكلين بالنار ، أو لذلك الملك ، والجمع للتعظيم أو لكبره كأنه جمع ( إلى النار ) : حتى يذوق العذاب جزاء على غروره وعجبه [ ص: 1627 ] بالعجاب ، ولا دلالة في الحديث على كفره ، ليكون مخلدا في النار ، وأغرب ابن الملك حيث قال : إدخاله النار كان مجازاة له على قسمه بأن الله لا يغفر للمذنب ذنبه ، لأنه جعل الناس آيسين من رحمة الله ، وحكم بأن الله غير غفور ، وفيه أن هذا كله غير مفهوم من كلامه ، وإنما هو بالغ في الأمر بالمعروف ، وصدر هذا الكلام عنه في حال غضبه ، ولو كان لله لسومح به ، لكن لما كان مغرورا باجتهاده محتقرا للمذنب لأجل الإصرار على ذنبه استحق العقوبة ، ولذا قيل : معصية أورثت ذلا واستصغارا خير من طاعة أوجبت عجبا واستكبارا .

وقال ابن حجر عند قوله : " لا يا رب " أكذب نفسه وحلفه فاستحق العقاب ، فمن ثم قال : اذهبوا به إلى النار لأنه آيس من رحمة الله ، واليأس منها كفر لمن استحله كهذا الرجل ، كما دل عليه حلفه السابق المتضمن للحكم على الله تعالى بأنه لا يغفر الذنوب ، وعلى صاحبه بأنه يئس من رحمة الله ، وما ذكره من يأس المجتهد واستحلاله وكفره ، غير صحيح ، مع أنه على سبيل التنزيل يكون على معتقد المعتزلي من عدم تجويز غفران صاحب الكبيرة ، وعليه ظواهر كثيرة من الآيات في الوعيد ، ولم يقل أحد من أهل السنة بتكفير الخوارج والمعتزلة . نعم في الحديث رد بليغ على معتقدهم ، حيث إن الله تعالى غفر للمذنب وأدخله جنته برحمته من غير رجوع المذنب وتوبته . ( رواه أحمد ) .

وروى البغوي بإسناده في المعالم ، عن ضمضم بن جوس قال : دخلت مسجد المدينة ، فناداني شيخ فقال لي : يا يمامي تعال . وما أعرفه ، فقال : لا تقولن لرجل : والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الجنة . قلت : ومن أنت يرحمك الله ؟ قال : أبو هريرة . قال : فقلت : إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمته . قال : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن رجلين " الحديث إلى آخره . ثم قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت بدنياه وآخرته . اهـ . وتعليل ابن حجر هنا بقوله : لأنها صيرته إلى النار المؤبدة عليه خطأ ظاهر كما قدمناه .




الخدمات العلمية