الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2350 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت ; فاسألوني‌‌‌‌‌‌‌ الهدى أهدكم . وكلكم فقراء إلا من أغنيت ; فاسألوني أرزقكم ، وكلكم مذنب إلا من عافيت ; فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أبالي ، ولو أن أولكم وآخركم ، وحيكم ، وميتكم ، ورطبكم ، ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ، ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة . ولو أن أولكم ، وآخركم ، وحيكم ، وميتكم ، ورطبكم ، ويابسكم اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي ; ما نقص ذلك من ملكي جناح بعوضة ولو أن أولكم ، وآخركم ، وحيكم وميتكم ، ورطبكم ، ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد ، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته ، فأعطيت كل سائل منكم ; ‌‌‌‌ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ، ثم رفعها ; ذلك بأني جواد ماجد أفعل ما أريد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له كن ، فيكون . رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه .

التالي السابق


2350 - ( وعن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ويقول الله تعالى : يا عبادي ) : خطاب عام يشمل الخاص والعام ، وفيه تأنيس تام ( كلكم ضال إلا من هديت ) : كقوله تعالى : فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ، ووجدك ضالا فهدى ، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ( فاسألوني ) : بالهمز وحذفه ( الهدى ) أي : اطلبوا الهداية مني لا من غيري وأنتم الفقراء ( أهدكم ) : فيه إيماء إلى أن كل من أخلص لله في طلب الهداية هداه الله ( وكلكم فقراء ) أي : ظاهرا وباطنا ( إلا من أغنيت ) : وهو أيضا لا يستغني عنه لمحة لاحتياجه إلى الإيجاد والإمداد كل لحظة . قال الله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء ( فاسألوني أرزقكم ) أي : حلالا طيبا إذ الرزق المضمون ينال بلا سؤال ( وكلكم مذنب ) أي : يتصور منه الذنب ( إلا من عافيت ) أي : من الأنبياء والأولياء أي : عصمت وحفظت ، وإنما قال : ( عافيت ) تنبيها على أن الذنب مرض ذاتي وصحته عصمة الله تعالى وحفظه منه ، أو كلكم مذنب بالفعل وذنب كل بحسب مقامه إلا من عافيته بالمغفرة والرحمة والتوبة والأوبة ، ( فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ) أي : جميع ذنوبه ولو بلا توبة ، ولا يحتاج إلى استثناء الشرك لأن هذا العلم غير متصور إلا من المؤمن ( ولا أبالي ) : فيه رد على المعتزلي ( ولو أن أولكم وآخركم ) : يراد به الإحاطة والشمول ( وحيكم وميتكم ) : تأكيد لإرادة الاستيعاب كقوله : ( ورطبكم ويابسكم ) أي : شبابكم وشيوخكم ، أو عالمكم وجاهلكم ، أو مطيعكم وعاصيكم .

وأغرب ابن الملك فقال : أراد بالرطب النبات والشجر ، وباليابس المدر والحجر ، ويمكن أن يراد بهما البحر والبر أي : أهلهما ، أو لو صار كل ما في البحر والبر من الشجر والحجر والحيتان وسائر الحيوان آدميا . وقال الطيبي : هما عبارتان عن الاستيعاب التام كما في قوله تعالى : ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين والإضافة إلى ضمير المخاطبين تقتضي أن يكون الاستيعاب في نوع الإنسان ، فيكون تأكيدا للشمول بعد تأكيد ، وتقريرا بعد تقرير . انتهى . وبه يعلم أنه لا وجه لإدخال الملائكة وعصمتهم في هذا الحديث كما فعله ابن حجر . ( اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ) : وهو نبينا - صلى الله عليه وسلم - ( ما زاد ذلك ) أي : الاجتماع ( في ملكي ) وفي نسخة : من ملكي ( جناح بعوضة ) أي : قدره ، وفيه إظهار العظمة والكبرياء وكمال الغنى والاستغناء ( ولو أن أولكم وآخركم ، وحيكم ، وميتكم ، ورطبكم ، ويابسكم اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي ) وهو إبليس اللعين ( ما نقص ذلك من ملكي جناح بعوضة ) : فإن قبول الزيادة والنقصان نقص لقبول الحدثان ( ولو أن أولكم وآخركم ، وحيكم ، وميتكم ، ورطبكم ، ويابسكم اجتمعوا في صعيد ) أي : محل ( واحد ، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته ) : بضم الهمزة وكسر النون وتشديد الياء أي : مشتهاه ، وجمعها المنى والأماني يعني كل حاجة تخطر بباله ( فأعطيت كل سائل منكم ) أي : مقاصده في آن واحد [ ص: 1630 ] ( ما نقص ذلك ) أي : الإعطاء أو قضاء حوائجهم ( من ملكي ) أي : شيئا أو نقصا ( إلا كما ) أي : إلا مثل نقص فرضي ( لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس ) : بفتح الميم أي أدخل ( فيه إبرة ثم رفعها ) : فيه إشارة إلى قوله تعالى : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم وهو نظير ما في حديث الخضر لما ركب هو وموسى السفينة ، فوقع عصفور على طرفها ثم نقر من البحر نقرة فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، واتفق الشراح على أن هذا من باب الفرض والتنزيل ، أي : لو فرض النقص ، لكان مقداره مقدار الممثل به ، فإن وجد هنا نقص في البحر فإنه متناه ، لكنه نقص لا يمكنه أن يحس لقلته البالغة أدنى مراتب القلة ، وأقول ، وبحوله أجول : إن النقص غير متصور إلا صورة وإلا ففي الحقيقة انتقال شيء قليل من الجنس الكثير إلى طرف آخر ، فلا نقص في الحقيقة ، بل زيادة إفادة حياة ذلك العصفور بتلك القطرة ، وحصول وصول بعض العلوم من الشرعي واللدني إلى موسى والخضر - عليهما الصلاة والسلام - فتم الكلام بعون الملك العلام ، ثم ينبغي أن يجعل هذا نوعا من البديع ، ويسمى باب تأكيد الحكم بما يشبه الاستثناء كما قالوا في قوله تعالى : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا وفي قوله : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما وفي قول الشاعر :


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

وجعلوه من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم والله تعالى أعلم . ( ذلك ) أي : عدم نقص الملك ، وقال ابن الملك أي : قضاء الحوائج ( بأني جواد ) أي : كثير الجود ( ماجد ) أي : واسع العطاء . قال الطيبي : الماجد أبلغ من الجواد لأن المجد سعة الكرم فهو ترق ( أفعل ما أريد ) أي : لا ما يريد الخلق ، وروي في الحديث القدسي : ( يريد وأريد ، ولا يكون إلا ما أريد ) ، وقيل لأبي يزيد : ما تريد ؟ قال : أريد أن لا أريد ، قال نديم الباري شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري : هذا أيضا إرادة للذين أحسنوا الحسنى وزيادة . ( عطائي كلام ، وعذابي كلام ) : يعني لا ينقص من خزائني شيء ، والمراد بالكلام الأمر ( إنما أمري لشيء إذا أردت ) أي : إيجاده ( أن أقول له ) : إما تحقيق أو تمثيل ( كن فيكون ) : بالرفع والنصب أي : من غير تأخير عن أمري ، وهذا تفسير لقوله : عطائي كلام وعذابي كلام . قال القاضي : يعني ما أريد إيصاله إلى عبد من عطاء أو عذاب لا أفتقر إلى كد ومزاولة عمل ، بل يكفي لحصوله ووصوله تعلق الإرادة به . الكشاف : كن من ( كان ) التامة أي : احدث فيحدث ، وهذا تمثيل ، ومعناه أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فإنما يكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ولا يكون منه الإباء . ( رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ) .




الخدمات العلمية