الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2385 - وعن البراء بن عازب قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن ثم قال : " اللهم أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من قالهن ثم مات تحت ليلته مات على الفطرة " ، وفي رواية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل " يا فلان إذا أويت إلى فراشك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل اللهم أسلمت نفسي إليك، إلى قوله أرسلت ، وقال : فإن مت من ليلتك مت على الفطرة ، وإن أصبحت أصبت خيرا " متفق عليه .

التالي السابق


2385 - ( وعن البراء بن عازب قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - إذا أوى إلى فراشه نام على شقه ) بكسر الشين أي : جانبه ( الأيمن ، ثم قال : اللهم أسلمت ) أي : أخلصت ( نفسي ) بسكون الياء وفتحها أي : ذاتي ( إليك ) أي : مائلة إلى حكمك ( ووجهت وجهي ) أي : وجهي وقصد قلبي ( إليك ) وجعلت وجهي إلى قبلتك ، وقيل : النفس والوجه هنا بمعنى الذات ، يعني جعلت ذاتي طائعة لحكمك ومنقادة لك ، وقول الطيبي : إن أسلمت إشارة إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه ، مستقيم غاية الاستقامة ، وأما اعتراض ابن حجر بأن المقام مقام نوم وهو لا تكليف فيه فمدفوع بأن الطيبي - رحمه الله - لا يريد حين تحقق النوم كما لا يخفى على أحد ; بل مراده إما قبل النوم مطلقا ، أو حين إرادة النوم ، وفيه إشارة لطيفة إلى أن الشخص ينبغي أن يتوب إلى الله تعالى ذلك الوقت لينام مطيعا ، ويؤيد ما ذكرنا قول الطيبي في قوله - عليه الصلاة والسلام - ( وفوضت أمري إليك ) فيه إشارة إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوضة إليه ، لا مدبر لها غيره اهـ . والمعنى : توكلت في أمري كله عليك ( وألجأت ) أي أسندت ( ظهري إليك ) أي : إلى حفظك لما علمت أنه لا سند يتقوى به سواك ولا ينفع أحدا إلا حماك ، قال الطيبي - رحمه الله - فيه إشارة إلى أنه بعد تفويض أموره التي هو مفتقر إليها وبها معاشه وعليها مدار أمره ، ملتجئ إليه مما يضره ويؤذيه من الأسباب الداخلة والخارجة ( رغبة ورهبة ) قيل : مفعول لهما لألجأت ، وقال الطيبي - رحمه الله - : منصوبان على العلة بطريق اللف والنشر أي : فوضت أموري طمعا في ثوابك وألجأت ظهري من المكاره إليك مخافة من عذابك اهـ . وهو معنى صحيح ; بل صنعة بديع ، وأبدع ابن حجر بالتعرض عليه بأن هذا تحكم ، والوجه بل الصواب ما ذكرته من أن كل ما ذكر معلل بالرغبة والرهبة اهـ . والأظهر أن نصبهما على الحالية أي : راغبا وراهبا ، أو الظرفية أي : في مجال الطمع والخوف ، يتنازع فيهما الأفعال المتقدمة كلها ، وقوله : ( إليك ) إما متعلق برغبة وهي السعة في الإرداة ، ومتعلق رهبة محذوف أي : منك وهي المخافة مع التحرز والاضطراب وإما بمحذوف تقديره متوجها بهما إليك ، قال العلامة الكرماني : أي طمعا في ثوابك وخوفا من عقابك ، وإليك متعلق برغبة كقولهم علفتها تبنا وماء باردا اهـ . وما يبعد أن يتنازعا في إليك أي : رغبتي إليك وهو ظاهر ، ورهبتي إليك ، بمعنى إني حالة الخوف لا أرجع إلا إليك ، فإنه ( لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ) ملجأ مهموز ومنجا مقصور ، وقد يهمز منجا للازدواج وقد يعكس أيضا لذلك ، والمعنى لا مهرب ولا ملاذ ولا مخلص من عقوبتك إلا إلى رحمتك وهذا معنى ما ورد " أعوذ بك منك " وقال الكرماني : لا منجا مقصور وإعرابه كإعراب عصا ، فإن قلت : فهو يقرأ بالتنوين أو بغيره ، قلت : في هذا التركيب خمسة أوجه لأنه مثل لا حول ولا قوة إلا بالله ، والفرق بين نصبه وفتحه بالتنوين وعدمه ، وعند التنوين تسقط الألف ، قال : ولا ملجأ ولا منجا إن كانا مصدرين يتنازعان في منك ، وإن كانا مكانين فلا ، إذ اسم المكان لا يعمل ، وتقديره لا ملجأ إلى أحد إلا إليك ولا منجا إلا إليك ( آمنت ) استئناف فيه تعليل ( بكتابك الذي أنزلت ) أي : علي ، وهو القرآن الكريم الحاث على التخلق بهذه الأخلاق البهية وسائر المقامات العلية والحالات السنية ، ولذا قال الطيبي : أمنت بكتابك تخصيص بعد تعميم ، ولما غفل ابن حجر عن المعنى العام اعترض على الطيبي بقوله : لا تعميم فيما ذكره لأن الفعل في حين ثبات لا عموم فيه كالنكرة التي هي كذلك ، فتأمل يظهر لك وجه [ ص: 1655 ] الخلل ( ونبيك الذي أرسلت ) وفي نسخة بنبيك ، وإنما آمن بنفسه لأنه كان رسولا حقا فكان يجب عليه أن يصدق الله في ذلك ، وهو تعليم لأمته ، ولهذا كان يقول : " وأشهد أني رسول الله " ولما تضمن الإيمان به - صلى الله وعليه وسلم - العلوم الخاصة المتعلقة بالأحاديث النبوية ، قال الطيبي : تخصيص من التخصيص ، وأغرب ابن حجر بالاعتراض عليه لأنه لا يلائم ما قرره من الوجه الأوضح عنده ، وقال : كما يعلم من تأمل ما قاله وما قلته ، قلت : لو تأمل ما احتاج إلى الأمر بالتأمل فتأمل وعلى الله فتوكل ( وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قالهن ) أي : الكلمات المذكورة ( ثم مات تحت ليلته ) أي تحت حادثة فيها ، ومن أعجب العجاب أن ابن حجر قال : أي عقب طلوع فجرها ، وهو مع مخالفته نص الحديث الآتي ( فإن مت من ليلتك ، أو في ليلتك مت على الفطرة ، وإن أصبحت أصبت خيرا ) اعترض على الطيبي في قوله : ومعنى تحت ليلته أنه لم يتجاوز عنه إلى النهار ; لأن الليل يسلخ منه النهار فهو تحته ، أو يكون بمعنى إن مت تحت نازلة عليك من ليلتك أي : من أجل ما يحدث من ليلتك بقوله ، وفي جميعه نظر وكون الليل سلخ منه النهار لا يؤيد ما ذكره أولا في معنى التحت كما هو واضح ، أو يكون إلخ في غاية البعد والتكلف ، والأحسن عنده أن سبب التعبير بالتحت : أن الله جعل الليل لباسا فالناس مغمورون ومستورون تحته كالمستور تحت ثيابه ولباسه وهذا معنى واضح جدا ; فالعدول إلى ما ذكره الشارح من الأمرين السابقين عدول عن الجوهر إلى الصدف ، قلت : هذا المعنى هو بعينه المعنى الذي ذكره الطيبي أولا ، وهو معنى يسلخ منه النهار ، فالجلد هو المشبه باللبس فمؤدى معنى الآيتين واحد ، مع أن كلام ابن حجر آخرا يناقض تفسيره أولا ، وكان سبب الاعتراضات : عجبه وغروره بالفقهيات ، وجهله بدقائق الصناعات البديعية ، وعدم فهمه بحقائق الاعتبارات العربية ، ثم مع هذا كله قال في حق الطيبي : سبب وقوعه فيما علم من المواضع التي رددتها عليه قوله أول شرح هذا الحديث إن فيه غرائب وعجائب لا يعرفها إلا الثقات من أهل البيان ، فكأن ذلك وقع منه تبجحا فلم يصب الجادة الواضحة في أكثر شرحه كما يعلم بتأمل ما ذكره وما ذكرته اهـ . وبتأمل كلاميهما ظهر تفاوت ما بينهما كما بين السماء والأرض ، حيث ما بلغ فهم المتعقب وهم عقبه من تحقيق أربه وتدقيق أدبه لولا شرحه - شرح الله صدره ، وفتح قبره - لما فهم أحد من بعده ما قبله ، والفضل للمتقدم ، والأجر الكامل له ، وما وقع منه كان تحدثا لا تبجحا ، وعلامة صدقه ما قدره الله ممن زين كلامه وبين مرامه راجيا أن يكون داخلا في سلك من قال - صلى الله عليه وسلم - في حقه ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي كما ذكره شيخ مشايخنا الحافظ الجلال السيوطي في جامعه الصغير ، هذا ولو تتبع شرح ابن حجر وتفحص منه العجر والبجر لم يبق له إلا فروع فقهية أو كلمات اعتراضية ، وليس من الإنصاف نسبة الحلويات إلى نفسه وإسناد المريات على زعمه لأخيه ; بل لنفسه ، ومع هذا نرجو من الله أن لا يؤاخذه في رمسه ( مات على الفطرة ) أي : الإسلام ( وفي رواية قال ) أي : البراء ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل : ) قال الطيبي : هو أسيد بن حضير ( يا فلان إذا أويت ) أي : قصدت المأوى ( إلى فراشك ) أي : للنوم ، ولهذا قال : أي إذا أردت أن تجعل فراشك مكان نومك ( فتوضأ ) أمر ندب ( وضوءك ) أي : وضوء كاملا مثل وضوئك للصلاة ، ( ثم اضطجع على شقك الأيمن ) فإنه من السنن ( ثم قل : اللهم أسلمت نفسي إليك ، إلى قوله : أرسلت ، وقال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون من جملة كلام البراء ، عطف على قال رسول الله ، أو قال البراء أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون عطفا على قال لكنه موهم للوقف ، وإن كان مثله ما يقال من قبل الرأي ، ويؤيد الرفع أن الخطاب للصحابي ، وليس للصحابي أن يخاطب مثله بمثل قوله ( فإن مت ) بضم الميم وكسرها ( من ليلتك ) وفي نسخة في ليلتك ( مت على الفطرة ) أي : على التوحيد ( وإن أصبحت أصبت خيرا ) أي خيرا كثيرا ، أو خيرا في الدارين ( متفق عليه ) ، قال ابن حجر : في بعض طرقه [ ص: 1656 ] عن البراء قال : قلت : ورسولك الذي أرسلت ، فقال ونبيك ، وإنما رد عليه لأنه إذا قال ورسولك لم يبق يفيد قوله : الذي أرسلت ، إلا محض التأكيد ، وهذا معنى قول بعضهم لأن البيان صار مكررا من غير إفادة زيادة في المعنى وذلك مما يأباه البليغ اهـ ويمكن أن يحصل له فائدة مقدرة بأن يقال الذي أرسلته إلينا أو أرسلته إلى الخلق كافة مع أن التأكيد يقع في كلام البلغاء كما في قوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه فخر عليهم السقف من فوقهم وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - ( ما من صبح يصبح العباد فيه ) فليس من هذا القبيل خلافا لما وهمه ابن حجر ، والأظهر والله أعلم في وجه الرد أن الأدعية الواردة لا تغير عن ألفاظها وكذا الأحاديث ، وفي معناها التصانيف ، وإنما جاز نقل الحديث بالمعنى إذا اضطر إليه بنسيان لفظه فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، وأما نقله بالمعنى مع حفظه لفظه فيخاف عليه أن يدخل تحت قوله - صلى الله عليه وسلم - ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) ولذا قال بعض المحققين : ولابد أيضا من مراعاة القواعد النحوية ومحافظة المخارج والصفات الحرفية ، وقال الطيبي : النبيء فعيل بمعنى فاعل للمبالغة من النبأ بمعنى الخبر ; لأنه أنبأ عن الله ، ويجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه النبي مشتق من النباوة وهي الشيء المرتفع ، ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - على البراء حين قال ورسولك الذي أرسلت بما ورد عليه ليختلف اللفظان ويجتمع الثناء بين معنى الارتفاع والإرسال ، ويكون تعديدا للنعمة في الحالين ، وتعظيما للمنة على الوجهين اهـ وعلل النهي أيضا بأنه كان نبيا قبل أن كان رسولا ، ثم رأيت أن النووي استحسن قول الماوردي وغيره : سبب النهي أن الأذكار تعبدية يقتصر فيها على اللفظ الوارد بحروفه وبه يتعلق الجزاء ، ولعله أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمات فتعين أداؤها كما هي اهـ فالحمد لله على التوارد في المحافظة على الوارد ، ورواه الأربعة ، وفي رواية وليجعلهن آخر ما يتكلم به .




الخدمات العلمية