الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3392 - ( وعن جابر أن رجلا من الأنصار دبر مملوكا ) ولم يكن له مال غيره فبلغ النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال : من يشتريه مني ؟ فاشتراه نعيم ابن النحام بثمانمائة درهم . متفق عليه .

وفي رواية لمسلم : فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم ، فجاء بها إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فدفعها إليه ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ، يقول : فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك اقض دينك .

التالي السابق


3392 - ( وعن جابر أن رجلا من الأنصار دبر مملوكا ) : أي : قال مثلا : عبدي دبر موتي حر ( ولم يكن له مال غيره ) : بالرفع ( بلغ ) : أي : ذلك ( النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال : ( من يشتريه مني ؟ فاشتراه نعيم ) : بالتصغير ( ابن النحام ) : بفتح النون وتشديد الحاء المهملة على ما ضبطه المؤلف وغيره . قال النووي في شرح مسلم : قوله فاشتراه نعيم بن عبد الله ، وفي رواية : فاشتراه ابن النحام بالنون المفتوحة والحاء المهملة ، هكذا هو في جميع النسخ . قالوا : وهو غلط ، وصوابه فاشتراه النحام ، فإن المشتري هو نعيم وهو النحام ، وسمي بذلك لقول النبي - عليه الصلاة والسلام - ( دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة لنعيم ) والنحمة : الصوت ، وقيل : هي السعلة ، وقيل : النحنحة . قال الحافظ العسقلاني في رواية ابن المنكدر كما في الاستقراض : نعيم ابن النحام هو نعيم بن عبد الله ، والنحام بالنون والحاء المهملة الثقيلة لقب نعيم ، وظاهر الرواية أنه لقب أبيه . قال النووي : هو غلط لقوله - عليه الصلاة والسلام - " دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة من نعيم ) لكن الحديث المذكور من رواية الواقدي وهو ضعيف ، فلا ترد به الرواية الصحيحة ، فلعل أباه أيضا كان يقال له : النحام ، ونعيم المذكور هو ابن عبد الله بن أسيد بفتح أوله ، أسلم قديما قبل عمر ، فكتم إسلامه وأراد الهجرة ، فسأله بنو عدي أن يقيم على أي دين شاء لأنه كان ينفق على أيتامهم ، ثم هاجر عام الحديبية ومعه أربعون من أهل بيته ، واستشهد في فتوح الشام . ( بثمانمائة درهم ) : بكسر النون ( متفق عليه . وفي رواية لمسلم : فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي ) : بفتحتين منسوب إلى بني عدي قوم عمر - رضي الله تعالى عنه - ( بثمانمائة درهم ، فجاء بها إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فدفعها إليه ثم قال : ( ابدأ بنفسك ) : أي في الإنفاق ( فتصدق عليها ) : أي : فإنها أحق بها وأهلها فإنها مركب الروح في سلوكها ( فإن فضل ) : بفتح العين أي زاد ( شيء ) : أي منها ( فلأهلك ) : أي : مما يعولك ( فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ) : أي : إما وجوبا أو استحبابا ( فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ) : قال الطيبي رحمه الله : جواب للشرط كناية عن التفريق أشتاتا على من جاءه عن يمينه وشماله وأمامه ( يقول ) : أي : الراوي ( بين يديك وعن يمينك وعن شمالك ) : تفسير للتفريق ، وهكذا نصب على المصدر . في شرح السنة : اختلفوا في تدبير المدبر فأجاز جماعة الإطلاق ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد ، وروي عن عائشة رضي الله عنها : أنها باعت مدبرة لها سحرتها ، فأمرت ابن أخيها أن يبيعها من الأعراب من يسيء ملكتها . وقال جماعة : لا يجوز بيعه إذا كان التدبير مطلقا ، وهو أن يقول : إذا مت فأنت حر من غير أن يقيد بشرط أو زمان ، وقاسوا المدبر على أم الولد لتعلق عتق كل واحد منهما بموت المولى على الإطلاق ، وتأولوا هذا الحديث على التدبير المقيد ، وهو أن يقول : إن مت من مرضي هذا أو في شهري هذا فأنت حر ، فإنه يجوز بيع هذا المدبر عندهم والأول أولى ; لأن الحديث جاء في بيع المدبر ، وإذا أطلق يفهم منه التدبير المطلق لا غيره وليس كأم الولد ; لأن سبب العتق في أم الولد أشد تأكيدا منه في المدبر ، وبدليل أن استغراق التركة بالدين لا يمنع عتق أم الولد ، ويمنع عتق المدبر ، وأن أم الولد تعتق من رأس المال ، والمدبر عتقه من الثلث ، فظهر الفرق بينهما ، واتفقوا على جواز وطء المدبرة كما يجوز وطء أم الولد . قال النووي رحمه الله : في هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي رحمه الله وموافقيه ، أنه يجوز بيع المدبر قبل موت سيده لهذا الحديث وقياسا على الموصى بعتقه ، فإنه يجوز بيعه بالإجماع . وقال أبو حنيفة ومالك [ ص: 2224 ] وجمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين رحمهم الله تعالى أجمعين : لا يجوز بيع المدبر ، قالوا : وإنما باعه النبي - عليه الصلاة والسلام - في دين كان على سيده ، وقد جاء في رواية النسائي والدارقطني أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : ( اقض دينك ) .

قال ابن الهمام : التدبير لغة النظر في عواقب الأمور ، وشرعا العتق الموقع بعد الموت معلقا بالموت مطلقا لفظا أو معنى . قال صاحب الهداية : فإذا قال الرجل لمملوكه : إذا مت فأنت حر ، أو أنت حر عن دبر مني ، أو أنت مدبر ، أو دبرتك ، فقد صار مدبرا ; لأن هذه الألفاظ صريحة في التدبير ، فإنه أي التدبير إثبات العتق عن دبر ، وهذه تفيد ذلك بالوضع ، ثم لا يجوز بيعه المدبر المطلق ، وهو الذي علق عتقه بمطلق موت المولى ولا هبته ولا إخراجه عن ملكه إلا لحرية بلا بدل أو لكتابة أو عتق ذلك على مال ، وما سواه من التصرفات التي لا تبطل حقه في الحرية تجوز ، فيجوز استخدامه وإجارته ، وأخذ أجرته ، وتزويج المدبرة ووطؤها وأخذ مهرها وأرش جنايتها ; لأن الملك فيه ثابت وبه يستفاد ولاية هذه التصرفات .

وقال الشافعي : يجوز بيعه وهبته لما في الصحيحين من حديث جابر : أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره ، فباعه النبي - عليه الصلاة والسلام - بثمانمائة درهم ، ثم أرسل بثمنه إليه . وفي لفظ : أعتق رجل من الأنصار غلاما عن دبر ، وكان محتاجا وعليه دين ، فباعه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بثمانمائة درهم فأعطاه وقال : ( اقض دينك ) . قال ابن الهمام : ولحديث جابر هذا ألفاظ كثيرة ، وروى أبو حنيفة رحمه الله بسنده : أن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - باع المدبر ، وفي موطأ مالك بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أنها مرضت فتطاول مرضها ، فذهب بنو أختها فذكروا مرضها إلى طبيب فقال : إنكم تخبروني عن امرأة مطبوبة . قال : فذهبوا ينظرون ، فإذا جارية لها سحرتها ، وكانت قد دبرتها فدعتها ثم سألتها : ماذا أردت ؟ فقالت : أردت أن تموتي حتى أعتق .

قالت : فإن لله علي أن تباعي من أسوأ العرب ملكة ، فباعتها وأمرت بثمنها ، فجعل في مثلها . رواه الحاكم وقال : على شرط الشيخين . والجواب أنه لا شك أن الحر كان يباع في ابتداء الإسلام على ما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - باع رجلا يقال له شرف في دينه ، ثم نسخ ذلك بقوله : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ذكره في الناسخ والمنسوخ ، فلم تكن فيه دلالة على جواز بيعه الآن بعد النسخ ، وإنما يفيد استصحاب ما كان ثابتا من جواز بيعه قبل التدبير ، إذ لم يوجب التدبير زوال الرق عنه ، ثم رأينا أنه صح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : لا يباع المدبر ولا يوهب وهو حر من ثلث المال ، وقد رفعه إلى رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لكن ضعف الدارقطني رفعه ، وصحح وقفه .

قال ابن الهمام : فعلى تقدير الرفع لا إشكال ، وعلى تقدير الوقف فقول الصحابة حينئذ لا يعارضه النص ألبتة ، لأنه واقعة حال لا عموم لها ، وإنما يعارضه لو قال يباع المدبر ، فإن قلنا بوجوب تقليده فظاهر ، وعلى عدم تقليده يجب أن يحمل على السماع ; لأن منع بيعه على خلاف القياس ، فبطل ما قيل : حديث ابن عمر لا يصلح لمعارضة حديث جابر ، وأيضا : ثبت عن أبي جعفر أنه ذكر عنده أن عطاء وطاوسا يقولان عن جابر في الذي أعتقه مولاه في عهد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - كان عتقه عن دبره ، فأمره أن يبيعه فيقضي دينه ، الحديث .

فقال أبو جعفر : شهدت الحديث من جابر ، إنما أذن في بيع خدمته ، رواه الدارقطني عن عبد الغفار بن القاسم رحمه الله الكوفي ، عن أبي جعفر ، وقال أبو جعفر : هذا وإن كان من الثقات الأثبات ، ولكن حديثه هذا مرسل .

وقال ابن القطان : هو مرسل صحيح ، لأنه من رواية عبد الملك بن أبي سليمان العوفي وهو ثقة عن أبي جعفر اهـ .

[ ص: 2225 ] فلو تم تضعيف عبد الغفار لم يضر لكن الحق عدمه ، وإن كان متشيعا فقد صرح أبو جعفر وهو محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين ، بأنه شهد حديث جابر وأنه أجاز لنا في بيع منافعه ، ولا يمكن لثقة إمام ذلك إلا لعلمه ذلك من جابر راوي الحديث .

وقال ابن العربي : قول من قال : يحمل الحديث على المدبر المقيد ، أو أن المراد أنه باع خدمة العبد من باب دفع الصائل ; لأن النص مطلق فيجب العمل به إلا لمعارضة نص آخر يمنع من العمل بطلاقه ، فأنت إذا علمت أن الحر كان يباع للدين ثم نسخ ، وأن في قوله في الحديث باع مدبرا ليس إلا حكاية الراوي نقلا جزئيا لا عموم لها ، وأن قوله : عتق عن دبر ، أو دبر أعم من المطلق والمقيد ، إذ يصدق على الذي دبر مقيدا أنه أعتق عن دبر منه ، وأن ما عن ابن عمر - رضي الله عنهما - موقوف صحيح ، وحديث أبي جعفر مرسل تابعي ثقة ، وقد أقمنا الدلالة على وجوب قبول المرسل وتقديمه على المسند بعد أنه قول جمهور السلف ، علمت قطعا أن المرسل حجة موجبة ، بل سالمة عن المعارض ، وكذا قول ابن عمران لم يصح رفعه بعضده ولا يعارضه المروي عن عائشة رضي الله عنها ، لجواز أن يكون تدبيرها مقيدا لأنه أيضا واقعة حال لا عموم لها ، فلم يتناول حديث جابر وعائشة - رضي الله عنهما - محل نزاع ألبتة ، فكيف ووجب حمله على السماع لما ذكرنا ، ثم قال : وإن علق التدبير بموته على صفة مثل أن يقول : إن مت من مرضي هذا ، أو سفري هذا ، أو مرض كذا ، أو قتلت ، أو غرقت فليس بمدبر ، ويجوز بيعه ; لأن التسمية لم تنعقد في الحال للتردد في تلك الصفة هل تقع أم لا ؟ بخلاف المدبر المطلق ; لأن تعلق عتقه بمطلق الموت وهو كائن لا محالة ، ثم إن مات المولى على الصفة التي ذكرناها عتق كما يعتق المدبر يعني من الثلث لأنه يثبت حكم التدبير له في آخر جزء من أجزاء حياته بتحقق تلك الصفة فيه ، فإذ ذلك يصير مدبرا مطلقا لا يجوز بيعه ، بل لا يمكن ، وإن برئ من ذلك المرض ، أو رجع من ذلك السفر ، ثم مات لم يعتق ; لأن الشرط الذي علق به قد انعدم .




الخدمات العلمية