الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4107 - وعن جابر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل ، متفق عليه .

التالي السابق


4107 - ( وعن جابر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل ) : في شرح السنة : اختلفوا في إباحة لحوم الخيل ، فذهب جماعة إلى إباحته . روي ذلك عن شريح ، والحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، وحماد بن أبي سليمان ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق . وذهب جماعة إلى تحريمه ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة . قال النووي : واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ولم يذكر الأكل ، وذكر الأكل في الأنعام في الآية التي قبلها ، وبحديث خالد بن الوليد : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الخيل والبغال والحمير . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه . وأجاب الأصحاب عن الآية : بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أن منفعتها مقصورة عليهما ، وإنما خصا بالذكر ؛ لأنه معظم المقصود من الخيل ، كقوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ، فذكر اللحم ؛ لأنه معظم المقصود ، وقد أجمعوا على تحريم شحمه ودمه وأجزائه . قلت : وفي كونه نظيرا لذلك نظر ظاهر . قال : ولهذا سكت عن ذكر حمل الأثقال على الخيل مع قوله تعالى في الأنعام : وتحمل أثقالكم ولم يلزم من هذا منع حمل الأثقال على الخيل . قلت : في سنن النسائي من حديث سلمة بن نفيل السكوني ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إذلال الخيل وهو امتهانها في الحمل عليها واستعمالها في الذل ، وأنشد أبو عمرو بن عبد البر في التمهيد لابن عباس رضي الله تعالى عنهما :


أحبوا الخيل واصطبروا عليها فإن العز فيها والجمالا

إذا ما الخيل ضيعها أناس
ربطناها فأشركت العيالا

نقاسمها المعيشة كل يوم
ونكسوها البراقع والجلالا

قال : وعن الحديث بأن علماء الحديث اتفقوا على أنه حديث ضعيف . قال أبو داود : هذا الحديث منسوخ . وقال النسائي : حديث الإباحة أصح ، ويشبه إن كان هذا صحيحا أن يكون منسوخا ، واحتج الجمهور بأحاديث الإباحة التي ذكرها مسلم وغيره ، وهي صحيحة صريحة ، ولم يثبت في النهي صحيح اهـ . ولا يخفى أن ما نقله عن أن داود ، والنسائي مخالف لدعواه من اتفاق المحدثين على أنه حديث ضعيف ، فإنه لو كان ضعيفا لما احتاجوا إلى القول بنسخه ، مع أن قول النسائي : حديث الإباحة أصح صريح في أن حديث التحريم صحيح ، وإذا [ ص: 6664 ] ثبت أنه صحيح عند المجتهدين فلا يلتفت إلى قول أحد من المتأخرين أن حديث معارضه أصح لعروض الفساد في الإسناد ، مع أنه قد يختص بإسناده ، ومن القواعد المقررة أنه إذا اجتمع دليل الحرمة والإباحة فتترجح الحرمة احتياطا ، وأما دعوى النسخ مع كونها مشتركة فتحتاج إلى بيان التاريخ من تقديم أحدها على الآخر ، وهو مفقود غير موجود ، ثم ظاهر الآية من إدراج الخيل مع البغال والحمير يقوي الحديث ويؤيده ، ومما يؤكده كونها آلة للجهاد حيث قال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل وقد أقسم بها في قوله تعالى : والعاديات ضبحا وهي خيل الغزو التي تعدو فتصيح أي تصوت بأجوافها ، فلا يلائم أن تكون مما يذبح فيؤكل ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - على ما في الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوي ناصية فرس وهو يقول : ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والغنيمة ) . ومعنى عقد الخير بنواصيها أنه ملازم لها كأنه معقود فيها ، والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة على ما قاله الخطابي وغيره . قالوا : وكنى بالناصية عن جميع ذات الفرس ، وروى النسائي بإسناد جيد عن قتادة عن أنس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شيء أحب إليه بعد النساء من الخيل .

وروي أن إسماعيل - عليه السلام - أول من ركبها ، ولذلك سميت العراب ، وكانت قبل ذلك وحشيا كسائر الوحوش ، فلما أذن الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد من البيت قال الله تعالى ( إني معطيكما كنزا ادخرته لكما ) ثم أوحى الله تعالى إلى إسماعيل أن اخرج فادع بذلك الكنز ، فخرج إلى أجياد وكان لا يدري ما الدعاء والكنز ، فألهمه الله عز وجل الدعاء ، فلم يبق على وجه الأرض فرس إلا أجابته فأمكنته من نواصيها وتذللت له ، ولذلك قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - : ( اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل ) ولعل حديث الإباحة محمول على حال الضرورة جمعا بين الحديثين ، كما في نفس الحديث إشارة إليه ، والله أعلم . ( متفق عليه ) : واعلم أن الإمام مالكا قال بكراهة لحم الخيل والمرجح من مذهبه التحريم ، وأما لحم البغال والحمير الأهلية فحرام عند الثلاثة ، واختلفوا عن مالك في ذلك ، والمروي عنه أنها مكروهة مغلظة ، والمرجح عند محققي أصحابه التحريم ، وحكي عن الحسن أكل لحم البغال ، وعن ابن عباس إباحة الحمر الأهلية .




الخدمات العلمية