الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4985 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم مرآة أخيه ، فإن رأى به أذى فليمط عنه " . رواه الترمذي وضعفه . وفي رواية له ولأبي داود : " المؤمن مرآة المؤمن ، والمؤمن أخو المؤمن ، يكف عنه ضيعته ، ويحوطه من ورائه " .

التالي السابق


4985 - ( وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أحدكم مرآة أخيه ) ، بكسر ميم ومد همز أي : آلة لإراءة محاسن أخيه ومعايبه ، لكن بينه وبينه ، فإن النصيحة في الملأ فضيحة ، وأيضا هو يرى من أخيه ما لا يراه من نفسه كما يرسم في المرآة ما هو مختف عن صاحبه فيراه فيها أي : إنما يعلم الشخص عيب نفسه بإعلام أخيه كما يعلم خلل وجهه بالنظر في المرآة ( فإن رأى ) أي : أحدكم ( به ) أي : بأخيه ( أذى ) أي : عيبا مما يؤذيه أو يؤذي غيره ( فليمط ) أي : فليمطه كما في رواية الجامع الصغير من الإماطة ، والمعنى فليزل ذلك الأذى ( عنه ) أي : عن أخيه إما بإعلامه حتى يتركه أو بالدعاء له حتى يرفع عنه ، وهذا وجه قول عمر رضي الله عنه : رحم الله امرأ أهدى إلي بعيوب نفسي ، وفي إتيانه - بصيغة الجمع إشارة إلى أن النفس معدن العيوب ومنبعها ولذا قيل :

وجودك ذنب لا يقاس به ذنب

وفي شرح الطيبي قيل أي : المؤمن في إراءة عيب أخيه كالمرآة المجلوة التي تحكي كل ما يرسم فيها من الصور ، ولو كان أدنى شيء ، فالمؤمن إذا نظر إلى أخيه يستشف من وراء أقواله وأفعاله وأحواله تعريفات وتلويحات من الله الكريم ، فأي وقت ظهر من أحد المؤمنين المجتمعين في عقد الأخوة عيب فادح في أخوته نافروه ; لأن ذلك يظهر بظهور النفس من تضييع حق الوقت ، فعلموا منه خروجه بذلك عن دائرة الجمعية فنافروه ; ليعود إلى دائرة الجمعية ، قال رويم : لا يزال الصوفية بخير ما تنافروا ، فإذا اصطلحوا هلكوا ، وهذا إشارة [ ص: 3123 ] إلى حسن تفقد بعضهم أحوال البعض إشفاقا من ظهور النفس ، يقول : إذا اصطلحوا ورفع التنافر بينهم يخاف أن يخامر البواطن المساهلة والمرآة ، ومسامحة البعض البعض في إهمال دقيق آدابهم ، وبذلك تظهر النفوس وتتولى ، وتصدأ مرآة القلب ، فلا يرى فيها الخلل والعيب . قال عمر - رضي الله عنه - في مجلس فيه المهاجرون والأنصار : أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ماذا كنتم فاعلين مرتين أو ثلاثا ؟ فلم يجيبوا . قال بشير بن سعد : لو فعلت ذلك قومناك تقويم القدح . قال عمر : أنتم إذا أنتم كذا في كتاب العوارف . ( رواه الترمذي وضعفه . وفي رواية له ولأبي داود ) : وكذا للبخاري في الأدب المفرد ( المؤمن مرآة المؤمن ، والمؤمن أخو المؤمن ، يكف عنه ضيعته ) ، أي : يمنع عن أخيه تلفه وخسرانه ، فهو مرة من الضياع ، وقيل ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه أي : يجمع عليه معيشته . ( ويحوطه ) أي : يحفظه ويخصره ويضمه إليه ( من ورائه ) أي : في غيبته نفسا ومالا وعرضا بأن لا يسكت إذا اغتيب عنده وقدر على دفعه ، هذا وصدر الحديث هو قوله : ( المؤمن مرآة المؤمن ) حديث مستقل أيضا . ورواه الطبراني في الأوسط ، والضياء عن أنس .

وللطائفة الصوفية الصفية تعلق بهذا الحديث من حيث تصوير الجمع بين الكثرة والوحدة تارة بوجود مرآة واحدة ومراء متعددة ، وتارة بالعكس في الانعكاس ، وجعلوا أحد المؤمنين عبارة عن المؤمن المهيمن المتعال ، وهو تمثال على وجه الكمال ، ولله المثل الأعلى والصفة الأعلى من حجة دلالته على تنزيه الرائي والمرئي من المحب والمحبوب ، والطالب والمطلوب . ومن حيثية كون المرآة مظهرا ومظهر المتعالي عن المحلول والاتحاد ، والانفصال والاتصال خلاف ما تصوره أهل الضلال ، وأيضا فيه إشارة إلى أن تجليات الظهور الرباني ، وتجليات العوارف الصمداني إنما هو بقدر صفاء المرآة عن صداء الذنوب ، وتجليات الشهوات وسائر العيوب مما يحجب القلوب عن مطالعة الغيوب ، لكن إذا كان الرائي متوجها إلى مرآة القلب لا معرضا عنها ، وإلا فيكون وجه المرآة وقفاؤها مستويين عنده ، وكذا إذا تراكم الصدأ والرين وارتفع العين بسبب الغين ، فيكون محجوبا في البين ، فانظر التفاوت بين الفريقين ، فإنه بون بين ، ولذا قال نديم الباري خواجه عبد الله الأنصاري ، صاحب منازل السائرين ، ومقامات الطائرين : آه آه من تفاوت سالكي طريق الإله ، مع أن الكل من حديد واحد في كير وارد ، فيصاغ من قطعة مرآة يرى بها وجهه المحبوب ، ويصنع من أخرى نعل يوضع تحت رجل المركوب مشيرا إلى قوله تعالى : أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون أي : الكافرون الكاملون في الغفلة بخلاف المؤمنين الكاملين في مرتبة الحضور دائما كالأنبياء ، أو غالبا كالأولياء ، وتارة كسائر المؤمنين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، فإن الغفلة كفر كما بينته في شرح حزب الفتح للشيخ أبي الحسن البكري قدس الله سره السري ، هذا وكان صاحب المنازل أراد بأحدهما مثل آدم وموسى والخاتم ، وبالآخر : إبليس وفرعون وأبا جهل ، لكن عندي أن يقال نبينا الرئيس بمقابلة إبليس ، فإن سيدنا محمدا أعظم مظاهر الجمال وإبليس أقوى مظاهر الجلال ، وكذا ما يترتب على متابعتهما من الجنة والثواب والنار والعقاب ، وأبو جهل يقابل بآدم الذي هو أبو العلم ، ولكل فرعون موسى ، وهنا يفتح أبواب بحث القضاء والقدر ، ويدخل أسباب التحير في أمر القوى والقدر ، والجواب المحمدي لا يسأل عما يفعل ، ثم هذان الأمران لاقتضاء صفتي الجمال والجلال من صاحب الكمال ، وبسطهما يوجب كلال أرباب الملال ، مع أنه غاية ذوق أصحاب الحال ، فقد مزجت لك الإشارة الصوفية الباطنية بالعبارة العلمية الظاهرية ، لعلك تعترف بالجهل من هذا المذهب ، وتغترف بالعلم من هذا المشرب ، ولو كان ممزوجا لعدم حصوله صرفا ، كما أشار إليه سبحانه ودل عليه كلامه وبرهانه حيث قال : " إن الأبرار لفي نعيم " إلى أن قال : " يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون " وقد قال العارف ابن الفارض :


عليك بها صرفا وإن شئت مزجها فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم



أذاقنا الله من كأس مشربهم ، ورزقنا سلوك مذهبهم وحسن مطلبهم .

[ ص: 3124 ]



الخدمات العلمية