الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
nindex.php?page=hadith&LINKID=950676عن nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف .
رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .
وفي رواية غير الترمذي : nindex.php?page=hadith&LINKID=950677احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا .
هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية nindex.php?page=showalam&ids=15775حنش الصنعاني ، عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد من حديث nindex.php?page=showalam&ids=15775حنش الصنعاني مع إسنادين آخرين منقطعين ولم يميز لفظ بعضها من بعض ، ولفظ حديثه : nindex.php?page=hadith&LINKID=950678يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات [ ص: 460 ] ينفعك الله بهن ؟ " فقلت : بلى ، فقال : " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد جف القلم بما هو كائن ، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله ، لم يقدروا عليه ، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك ، لم يقدروا عليه ، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا .
وهذا اللفظ أتم من اللفظ الذي ذكره الشيخ رحمه الله ، وعزاه إلى غير الترمذي ، واللفظ الذي ذكره الشيخ رواه nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد في " مسنده " بإسناد ضعيف عن عطاء ، عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وكذلك عزاه nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح في " الأحاديث الكلية " التي هي أصل أربعين الشيخ رحمه الله إلى nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد وغيره .
وقد روي هذا الحديث عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي ومولاه عكرمة ، nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء بن أبي رباح ، nindex.php?page=showalam&ids=16705وعمرو بن دينار ، وعبيد الله بن عبد [ ص: 461 ] الله ، وعمر مولى غفرة ، nindex.php?page=showalam&ids=12531وابن أبي مليكة وغيرهم .
وأصح الطرق كلها طريق nindex.php?page=showalam&ids=15775حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي ، كذا قال ابن منده وغيره . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بهذه الوصية من حديث nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب ، nindex.php?page=showalam&ids=44وأبي سعيد الخدري ، nindex.php?page=showalam&ids=31وسهل بن سعد ، nindex.php?page=showalam&ids=166وعبد الله بن جعفر ، وفي أسانيدها كلها ضعف . [ ص: 462 ] وذكر nindex.php?page=showalam&ids=14798العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة ، وبعضها أصلح من بعض ، وبكل حال ، فطريق nindex.php?page=showalam&ids=15775حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة .
وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء : تدبرت هذا الحديث ، فأدهشني وكدت أطيش ، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث ، وقلة التفهم لمعناه .
قلت : وقد أفردت لشرحه جزءا كبيرا ونحن نذكر هاهنا مقاصده على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى .
وكذلك الطهارة ، فإنها مفتاح الصلاة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950681nindex.php?page=treesubj&link=24774لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن .
nindex.php?page=treesubj&link=33061ومما يؤمر بحفظه الأيمان ، قال الله عز وجل : nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=89واحفظوا أيمانكم [ المائدة : 89 ] ، فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيرا ، ويهمل كثير منهم ما يجب بها ، فلا يحفظه ، ولا يلتزمه .
ومن ذلك حفظ الرأس والبطن كما في حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود المرفوع : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950682nindex.php?page=treesubj&link=19530الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى ، وتحفظ البطن وما حوى " خرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي .
ويتضمن أيضا nindex.php?page=treesubj&link=18580حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب .
nindex.php?page=treesubj&link=27140ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل : اللسان والفرج ، وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950683من حفظ ما بين لحييه ، وما بين رجليه ، دخل الجنة خرجه الحاكم .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950684من حفظ ما بين فقميه وفرجه ، دخل الجنة .
وقال علي رضي الله عنه : nindex.php?page=treesubj&link=28736إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه ، وإن الأجل جنة حصينة .
[ ص: 466 ] وقال مجاهد : ما من عبد إلا له ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما من شيء يأتيه إلا قال : وراءك ، إلا شيئا أذن الله فيه فيصيبه .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، وأبو داود ، nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950685لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح : " اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عورتي ، وآمن روعتي ، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي " .
ومن حفظه الله في صباه وقوته ، حفظه الله في حال كبره وضعف قوته ، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله .
كان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله ، فوثب يوما وثبة شديدة ، فعوتب في ذلك ، فقال : هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر ، فحفظها الله علينا في الكبر . وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخا يسأل الناس فقال : إن هذا ضعيف ضيع الله في صغره ، فضيعه الله في كبره . [ ص: 467 ] وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته كما قيل في قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=82وكان أبوهما صالحا [ الكهف : 82 ] : أنهما حفظا بصلاح أبيهما . قال nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب لابنه : لأزيدن في صلاتي من أجلك ، رجاء أن أحفظ فيك ، ثم تلا هذه الآية nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=82وكان أبوهما صالحا ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز : ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=16920ابن المنكدر : إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر .
ومتى كان العبد مشتغلا بطاعة الله ، فإن الله يحفظه في تلك الحال ، وفي " مسند nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد " عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950686كانت امرأة في بيت ، فخرجت في سرية من المسلمين ، وتركت ثنتي عشرة عنزة وصيصيتها كانت تنسج بها ، قال : ففقدت عنزا لها وصيصيتها ، فقالت : يا رب إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه ، وإني قد فقدت عنزا من غنمي وصيصيتي ، وإني أنشدك عنزي وصيصيتي قال : وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شدة مناشدتها ربها تبارك وتعالى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأصبحت عنزها ومثلها ، وصيصيتها ومثلها . والصيصية : هي الصنارة التي يغزل بها وينسج .
فمن حفظ الله حفظه الله من كل أذى قال بعض السلف : من اتقى الله فقد حفظ نفسه ، ومن ضيع تقواه ، فقد ضيع نفسه ، والله الغني عنه .
[ ص: 468 ] ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى ، كما جرى nindex.php?page=showalam&ids=3571لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كسر به المركب ، وخرج إلى جزيرة ، فرأى الأسد ، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق ، فلما أوقفه عليها ، جعل يهمهم كأنه يودعه ، ثم رجع عنه .
ورئي nindex.php?page=showalam&ids=12358إبراهيم بن أدهم نائما في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس ، فما زالت تذب عنه حتى استيقظ .
وعكس هذا أن من ضيع الله ، ضيعه الله ، فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم ، كما قال بعض السلف : إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي .
النوع الثاني من الحفظ ، وهو أشرف النوعين : حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه ، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ، ومن الشهوات المحرمة ، ويحفظ عليه دينه عند موته ، فيتوفاه على الإيمان قال بعض السلف : إذا حضر الرجل الموت يقال للملك : شم رأسه ، قال : أجد في رأسه القرآن ، قال : شم قلبه ، قال : أجد في قلبه الصيام ، قال : شم قدميه قال : أجد في قدميه القيام قال : حفظ نفسه ، فحفظه الله .
وفي " الصحيحين " nindex.php?page=hadith&LINKID=950687عن nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يقول عند [ ص: 469 ] منامه : إن قبضت نفسي ، فارحمها ، وإن أرسلتها ، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين .
وفي حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول : اللهم احفظني بالإسلام قائما ، واحفظني بالإسلام قاعدا ، واحفظني بالإسلام راقدا ، ولا تطع في عدوا ولا حاسدا خرجه nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان في " صحيحه " .
nindex.php?page=hadith&LINKID=950688وكان النبي صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=treesubj&link=17772يودع من أراد سفرا ، فيقول : " أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك " وكان يقول : " إن الله إذا استودع شيئا حفظه " . خرجه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي وغيره .
وقال الحسن - وذكر أهل المعاصي - : هانوا عليه ، فعصوه ، ولو عزوا عليه لعصمهم .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له ، فينظر الله إليه فيقول للملائكة : اصرفوه عنه ، فإنه إن يسرته له أدخلته النار ، فيصرفه الله عنه ، فيظل يتطير يقول : سبقني فلان دهاني فلان ، وما هو إلا فضل الله عز جل .
وخرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ، وإن بسطت عليه أفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته ، لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته ، لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ، ولو أصححته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من يطلب بابا من العبادة ، فأكفه عنه ، لكيلا يدخله العجب ، إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ، إني عليم خبير .
[ ص: 471 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950690احفظ الله تجده تجاهك وفي رواية : " أمامك " معناه : أن nindex.php?page=treesubj&link=19662_30491من حفظ حدود الله ، وراعى حقوقه ، وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده فـ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ النحل : 128 ] قال قتادة : من يتق الله يكن معه ، ومن يكن الله معه ، فمعه الفئة التي لا تغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل .
وروي عن nindex.php?page=showalam&ids=15567بنان الحمال أنه دخل البرية وحده على طريق تبوك ، فاستوحش ، فهتف به هاتف : لم تستوحش ؟ أليس حبيبك معك ؟ وقيل لبعضهم : ألا تستوحش وحدك ؟ فقال : كيف أستوحش ، وهو يقول : " أنا جليس من ذكرني " وقيل لآخر : نراك وحدك ؟ فقال : من يكن الله معه ، كيف يكون وحده ؟ وقيل لآخر : أما معك مؤنس ؟ قال : بلى ، قيل له : أين هو ؟ قال : أمامي ، ومعي ، وخلفي ، وعن يميني ، وعن شمالي ، وفوقي وكان الشبلي ينشد :
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى لمطايانا بذكرك هاديا
قوله صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950693تعرف إلى الله في الرخاء ، يعرفك في الشدة " يعني أن العبد إذا [ ص: 473 ] اتقى الله ، وحفظ حدوده ، وراعى حقوقه في حال رخائه ، فقد تعرف بذلك إلى الله ، وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة ، فعرفه ربه في الشدة ، ورعى له تعرفه إليه في الرخاء ، فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة ، وهذه معرفة خاصة تقتضي قرب العبد من ربه ، ومحبته له ، وإجابته لدعائه .
فمعرفة العبد لربه نوعان : أحدهما : المعرفة العامة ، وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان ، وهذه عامة للمؤمنين .
والثاني : معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية ، والانقطاع إليه ، والأنس به ، والطمأنينة بذكره ، والحياء منه ، والهيبة له ، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون ، كما قال بعضهم : مساكين أهل الدنيا ، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ، قيل له : وما هو ؟ قال : معرفة الله عز وجل .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=12268أحمد بن عاصم الأنطاكي : أحب أن لا أموت حتى أعرف مولاي ، وليس معرفته الإقرار به ، ولكن المعرفة إذا عرفته استحييت منه .
والثاني : nindex.php?page=treesubj&link=29700معرفة خاصة ، وهي تقتضي محبته لعبده ، وتقريبه إليه ، وإجابة دعائه ، وإنجاءه من الشدائد ، وهي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه " nindex.php?page=hadith&LINKID=950694ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي [ ص: 474 ] يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني ، لأعيذنه " ، وفي رواية : " ولئن دعاني لأجيبنه " .
ولما هرب الحسن من الحجاج دخل إلى بيت حبيب أبي محمد ، فقال له حبيب : يا أبا سعيد ، أليس بينك وبين ربك ما تدعوه ، فيسترك من هؤلاء ؟ ادخل البيت ، فدخل ، ودخل الشرط على أثره ، فلم يروه ، فذكر ذلك للحجاج ، فقال : بل كان في البيت ، إلا أن الله طمس أعينهم فلم يروه .
واجتمع nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض بشعوانة العابدة ، فسألها الدعاء ، فقالت : يا فضيل ، وما بينك وبينه ما إن دعوته أجابك ، فغشي على الفضيل .
وقيل لمعروف : وما الذي هيجك إلى الانقطاع والعبادة ؟ وذكر له الموت والبرزخ والجنة والنار - فقال معروف : إن ملكا هذا كله بيده إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا .
وفي الجملة ، فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه ، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته .
وخرج الترمذي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950695nindex.php?page=treesubj&link=19769من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد ، فليكثر الدعاء في الرخاء .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم وغيره من رواية أبي يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه أن يونس [ ص: 475 ] عليه السلام لما دعا في بطن الحوت ، قالت الملائكة : يا رب هذا صوت معروف من بلاد غريبة ، فقال الله عز وجل : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا : ومن هو ؟ قال : عبدي يونس ، قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة ؟ قال : نعم ، قالوا : يا رب ، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ قال : بلى ، قال : فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي : إذا كان الرجل دعاء في السراء ، فنزلت به ضراء ، فدعا الله تعالى ، قالت الملائكة : صوت معروف فشفعوا له ، وإذا كان ليس بدعاء في السراء ، فنزلت به ضراء ، فدعا الله تعالى قالت الملائكة : صوت ليس بمعروف ، فلا يشفعون له .
وقال رجل nindex.php?page=showalam&ids=4لأبي الدرداء : أوصني ، فقال : nindex.php?page=treesubj&link=24582اذكر الله في السراء يذكرك الله عز وجل في الضراء . [ ص: 476 ] وعنه أنه قال : ادع الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك .
فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه ، واستعد حينئذ للقاء الله بالموت وما بعده ، ذكره الله عند هذه الشدائد ، فكان معه فيها ، ولطف به ، وأعانه ، وتولاه ، وثبته على التوحيد ، فلقيه وهو عنه راض ، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه ، ولم يستعد حينئذ للقائه ، نسيه الله في هذه الشدائد ، بمعنى أنه أعرض عنه ، وأهمله فإذا نزل الموت بالمؤمن المستعد له ، أحسن الظن بربه ، وجاءته البشرى من الله ، فأحب لقاء الله ، وأحب الله لقاءه ، والفاجر بعكس ذلك ، وحينئذ يفرح المؤمن ، ويستبشر بما قدمه مما هو قادم عليه ، ويندم المفرط ، ويقول : nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=56يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله [ الزمر : 56 .
] قال nindex.php?page=showalam&ids=14510أبو عبد الرحمن السلمي قبل موته : كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان ؟ وقال nindex.php?page=showalam&ids=11948أبو بكر بن عياش لابنه عند موته : أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم القرآن كل ليلة ؟ . [ ص: 477 ] وختم nindex.php?page=showalam&ids=11790آدم بن أبي إياس القرآن وهو مسجى للموت ، ثم قال : بحبي لك ، إلا رفقت بي في هذا المصرع ؟ كنت أؤملك لهذا اليوم ، كنت أرجوك لا إله إلا الله ، ثم قضى .
ولما احتضر nindex.php?page=showalam&ids=15925زكريا بن عدي ، رفع يديه ، وقال : اللهم إني إليك لمشتاق .
وقال عبد الصمد الزاهد عند موته : سيدي لهذه الساعة خبأتك ، ولهذا اليوم اقتنيتك ، حقق حسن ظني بك .
وقال علي بن أبي طلحة عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في هذه الآية : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم في قوله عز وجل : nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=30إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا الآية [ فصلت : 30 ] قال : يبشر بذلك عند موته ، وفي قبره ، ويوم يبعث ، فإنه لفي الجنة ، وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه . [ ص: 478 ] وقال nindex.php?page=showalam&ids=15603ثابت البناني في هذه الآية : بلغنا أن المؤمن حيث يبعثه الله من قبره ، ويتلقاه ملكاه اللذان كانا معه في الدنيا ، فيقولان له : لا تخف ولا تحزن ، فيؤمن الله خوفه ، ويقر الله عينه ، فما من عظيمة تغشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله ، ولما كان يعمل في الدنيا .
وقوله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950697nindex.php?page=treesubj&link=28680_28685إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله هذا منتزع من قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين ، فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه .
nindex.php?page=treesubj&link=19734والدعاء هو العبادة ، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=114النعمان بن بشير ، وتلا قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=60وقال ربكم ادعوني أستجب لكم [ غافر : 60 ] خرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، وأبو داود ، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه .
وخرج الترمذي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950698nindex.php?page=treesubj&link=19734الدعاء مخ العبادة فتضمن هذا الكلام أن يسأل الله عز وجل ، ولا يسأل غيره ، وأن يستعان بالله دون غيره .
وأما السؤال ، فقد أمر الله بمسألته ، فقال : nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=32واسألوا الله من فضله [ النساء : 32 ] وفي " الترمذي " عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود مرفوعا : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950699سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل " . [ ص: 479 ] وفيه أيضا عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة مرفوعا : " من لا يسأل الله يغضب عليه " .
وفي حديث آخر : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950700ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع " .
وفي النهي عن nindex.php?page=treesubj&link=28685مسألة المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة ، وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا : منهم nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق ، وأبو ذر ، وثوبان ، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته ، فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه .
[ ص: 480 ] وخرج nindex.php?page=showalam&ids=12455ابن أبي الدنيا من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12077أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن بني فلان أغاروا علي فذهبوا بابني وإبلي ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إن آل محمد كذا وكذا أهل بيت ، ما لهم مد من طعام ، أو صاع ، فاسأل الله عز وجل ، فرجع إلى امرأته ، فقالت : ما قال لك ؟ فأخبرها ، فقالت : نعم ما رد عليك ، فما لبث أن رد الله عليه ابنه وإبله أوفر ما كانت ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وأمر الناس بمسألة الله عز وجل والرغبة إليه ، وقرأ : nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2ومن يتق الله يجعل له مخرجا nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=3ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 ] .
وقد ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=950702أن الله عز وجل يقول : هل من داع ، فأستجيب له ؟ هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ .
وخرج المحاملي وغيره من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قال الله تعالى : من ذا الذي دعاني فلم أجبه ؟ وسألني فلم أعطه ؟ واستغفرني ، فلم أغفر له وأنا أرحم الراحمين ؟ .
nindex.php?page=treesubj&link=28685والله سبحانه يحب أن يسأل ويرغب إليه في الحوائج ، ويلح في سؤاله ودعائه ، ويغضب على من لا يسأله ، ويستدعي من عباده سؤاله ، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء ، والمخلوق بخلاف ذلك كله : يكره أن يسأل ، ويحب أن لا يسأل ، لعجزه وفقره وحاجته ، ولهذا قال nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك : ويحك ، تأتي من يغلق عنك بابه ، ويظهر لك فقره ، ويواري عنك غناه ، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار ، ويظهر لك غناه ، ويقول ادعني أستجب لك ؟ ! .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس لعطاء : إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق بابه دونك ويجعل دونها حجابه ، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة أمرك أن تسأله ، ووعدك أن يجيبك .
وأما nindex.php?page=treesubj&link=28680الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق ، فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ، ودفع مضاره ، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه [ ص: 482 ] إلا الله عز وجل ، فمن أعانه الله ، فهو المعان ، ومن خذله فهو المخذول ، وهذا تحقيق nindex.php?page=treesubj&link=33152معنى قول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال ، ولا قوة له على ذلك إلا بالله ، وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة ، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات ، وترك المحظورات ، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة ، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل ، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950704احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز .
nindex.php?page=treesubj&link=28681ومن ترك الاستعانة بالله ، واستعان بغيره ، وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولا . كتب الحسن إلى nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز : لا تستعن بغير الله ، فيكلك الله إليه . ومن كلام بعض السلف : يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك ، وعجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك .
قوله صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950705جف القلم بما هو كائن " ، وفي رواية أخرى : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950706رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " هو كناية عن nindex.php?page=treesubj&link=30452تقدم كتابة المقادير كلها ، والفراغ منها من أمد بعيد ، فإن الكتاب إذا فرغ من كتابته ، ورفعت الأقلام عنه ، وطال عهده ، فقد رفعت عنه الأقلام ، وجفت الأقلام التي كتب بها من مدادها ، وجفت الصحيفة التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها ، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها . [ ص: 483 ] وقد دل الكتاب والسنن الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى ، قال الله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=22ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير [ الحديد : 22 ] وفي " صحيح مسلم " عن nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950707nindex.php?page=treesubj&link=30452إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .
وفيه أيضا عن جابر أن nindex.php?page=hadith&LINKID=950708رجلا قال : يا رسول الله ، فيم العمل اليوم ؟ أفيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير ، أم فيما يستقبل ؟ قال : لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، قال : ففيم العمل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، وأبو داود ، nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950709إن nindex.php?page=treesubj&link=28782أول ما خلق الله القلم ، ثم قال : اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا يطول ذكرها .
قوله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950710فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله ، لم يقدروا عليه ، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك ، لم يقدروا عليه .
هذه رواية nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضا ، والمراد : أن nindex.php?page=treesubj&link=30455ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه ، فكله مقدر عليه ، nindex.php?page=treesubj&link=30455ولا يصيب العبد [ ص: 484 ] إلا ما كتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق ، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد من حديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950711إن لكل شيء حقيقة ، nindex.php?page=treesubj&link=28776وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه .
وخرج أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك أيضا .
واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل ، وما ذكر قبله وبعده ، فهو متفرع عليه ، وراجع إليه ، فإن العبد إذا علم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ، ونفع وضر ، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة ، علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع ، المعطي المانع ، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل ، وإفراده بالطاعة ، وحفظ حدوده ، فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار ، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر ، ولا يغني عن عابده شيئا ، فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ، ولا يعطي ولا يمنع غير الله ، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال [ ص: 485 ] والتضرع والدعاء ، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا ، وأن يتقي سخطه ، ولو كان فيه سخط الخلق جميعا ، وإفراده بالاستعانة به ، والسؤال له ، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء ، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد ، ونسيانه في الرخاء ، ودعاء من يرجون نفعه من دونه ، قال الله عز وجل : nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=38قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون [ الزمر : 38 ] .
قوله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950712واعلم أن nindex.php?page=treesubj&link=19572في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا يعني : أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه إذا صبر عليها ، كان له في الصبر خير كثير .
وفي رواية عمر مولى غفرة وغيره عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام ، وهي " فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين ، فافعل ، وإن لم تستطع ، فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا " .
وفي رواية أخرى من رواية nindex.php?page=showalam&ids=16630علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه ، لكن إسنادها ضعيف ، زيادة أخرى بعد هذا ، وهي : قلت : يا رسول الله ، كيف أصنع باليقين ؟ قال : " أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، فإذا أنت أحكمت باب اليقين " ومعنى هذا أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يعين العبد على أن ترضى نفسه بما أصابه ، فمن استطاع أن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور ، فليفعل ، فإن لم يستطع الرضا ، فإن في الصبر على المكروه خيرا كثيرا . [ ص: 486 ] فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب :
وخرج الترمذي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال nindex.php?page=hadith&LINKID=950715إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي ، فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : " أسألك الرضا بعد القضاء " .
ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=950717لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته سراء شكر ، كان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، كان خيرا له ، وليس ذلك إلا للمؤمن .
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يوصيه وصية جامعة موجزة ، فقال : " لا تتهم الله في قضائه " .
قال nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء : إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن [ ص: 487 ] مسعود : إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط ؛ فالراضي لا يتمنى غير ما هو عليه من شدة ورخاء كذا روي عن عمر nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود وغيرهما . وقال nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز : أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر .
وأهل الرضا تارة يلاحظون حكمة المبتلي وخيرته لعبده في البلاء ، وأنه غير متهم في قضائه ، وتارة يلاحظون ثواب الرضا بالقضاء ، فينسيهم ألم المقضي به ، وتارة يلاحظون عظمة المبتلي وجلاله وكماله ، فيستغرقون في مشاهدة ذلك ، حتى لا يشعرون بالألم ، وهذا يصل إليه خواص أهل المعرفة والمحبة ، حتى ربما تلذذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم ، كما قال بعضهم : أوجدهم في عذابه عذوبة . وسئل بعض التابعين عن حاله في مرضه ، فقال : أحبه إليه أحبه إلي . وسئل السري : هل يجد المحب ألم البلاء ؟ فقال : لا وقال بعضهم :
عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب [ ص: 488 ] حسبي من الحب أني لما تحب أحب
nindex.php?page=treesubj&link=19571_29480والفرق بين الرضا والصبر : أن nindex.php?page=treesubj&link=19571الصبر كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم ، وتمني زوال ذلك ، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع ، والرضا : انشراح الصدر وسعته بالقضاء ، وترك تمني زوال ذلك المؤلم ، وإن وجد الإحساس بالألم ، لكن الرضا يخففه لما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة ، وإذا قوي الرضا ، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق .
وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عن الجهاد : ابدأ بنفسك ، فجاهدها ، وابدأ بنفسك ، فاغزها .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=15550بقية بن الوليد : أخبرنا nindex.php?page=showalam&ids=12358إبراهيم بن أدهم ، حدثنا الثقة عن nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب ، قال : أول ما تنكرون من جهادكم أنفسكم .
وقال إبراهيم بن أبي علقمة لقوم جاءوا من الغزو : قد جئتم من الجهاد الأصغر ، فما فعلتم في الجهاد الأكبر ؟ قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد القلب . ويروى هذا مرفوعا من حديث جابر بإسناد ضعيف ، ولفظه : " قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : " مجاهدة العبد لهواه " . [ ص: 490 ] ويروى من حديث سعد بن سنان ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ليس عدوك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة ، وإذا قتلته كان لك نورا ، أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك " .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما حين استخلفه : إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك .
فهذا الجهاد يحتاج أيضا إلى صبر ، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه ، غلبه وحصل له النصر والظفر ، وملك نفسه ، فصار عزيزا ملكا ، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك ، غلب وقهر وأسر ، وصار عبدا ذليلا أسيرا في يدي شيطانه وهواه ، كما قيل :
إذا المرء لم يغلب هواه أقامه بمنزلة فيها العزيز ذليل
قال nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك : من صبر ، فما أقل ما يصبر ، ومن جزع فما أقل ما يتمتع .
فقوله صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950721إن النصر مع الصبر " يشمل النصر في الجهادين : جهاد العدو الظاهر ، وجهاد العدو الباطن ، فمن صبر فيهما ، نصر وظفر بعدوه ، ومن لم يصبر فيهما وجزع ، قهر وصار أسيرا لعدوه أو قتيلا له .
وكم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب كإنجاء نوح ومن معه في الفلك ، وإنجاء إبراهيم من النار ، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه ، وإنجاء موسى وقومه من اليم ، وإغراق عدوهم ، وقصة أيوب ويونس ، وقصص محمد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ، وإنجائه منهم ، كقصته في الغار ، ويوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، وغير ذلك .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وغيره من حديث الحسن مرسلا نحوه ، وفي حديثه : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=950727لن يغلب عسر يسرين " .
ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر : أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى ، وحصل للعبد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين ، وتعلق قلبه بالله وحده ، وهذا هو nindex.php?page=treesubj&link=19648حقيقة التوكل على الله ، وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج ، فإن الله يكفي من توكل عليه ، كما قال تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=3ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=11790آدم بن أبي إياس في تفسيره بإسناده عن محمد بن إسحاق قال : جاء مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أسر ابني عوف ، فقال له : أرسل إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله فأتاه الرسول فأخبره ، فأكب عوف يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه ، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها ، فأقبل فإذا هو بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه ، فصاح بهم ، فاتبع آخرها أولها ، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي [ ص: 494 ] بالباب ، فقال أبوه : عوف ورب الكعبة ، فقالت أمه : واسوأتاه ، وعوف كئيب يألم ما هو فيه من القد ، فاستبق الأب والخادم إليه ، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا ، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل ، فأتى أبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنع بها ما أحببت ، وما كنت صانعا بإبلك ، ونزل : nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2ومن يتق الله يجعل له مخرجا nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=3ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 2 - 3 ] الآية .
قال الفضيل : لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئا ، لأعطاك مولاك كل ما تريد . وذكر nindex.php?page=showalam&ids=12358إبراهيم بن أدهم عن بعضهم قال : ما سأل السائلون مسألة هي ألحف من أن يقول العبد : ما شاء الله ، قال : يعني بذلك التفويض إلى الله عز وجل . وقال nindex.php?page=showalam&ids=14971سعيد بن سالم القداح : بلغني أن موسى عليه السلام كانت له إلى الله حاجة ، فطلبها ، فأبطأت عليه ، فقال : ما شاء الله ، فإذا حاجته بين يديه ، فعجب فأوحى الله إليه : أما علمت أن قولك : ما شاء الله أنجح ما طلبت به الحوائج .
وأيضا فإن المؤمن إذا استبطأ الفرج ، وأيس منه بعد كثرة دعائه وتضرعه ، ولم يظهر عليه أثر الإجابة فرجع إلى نفسه باللائمة ، وقال لها : إنما أتيت من قبلك ، ولو كان فيك خير لأجبت ، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات ، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه أهل لما نزل من البلاء ، وأنه ليس بأهل لإجابة الدعاء ، فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب ، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله . [ ص: 495 ] قال وهب : تعبد رجل زمانا ، ثم بدت له إلى الله حاجة ، فصام سبعين سبتا ، يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة ، ثم سأل الله حاجته فلم يعطها ، فرجع إلى نفسه فقال : منك أتيت ، لو كان فيك خير ، أعطيت حاجتك ، فنزل إليه عند ذلك ملك ، فقال له : يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت ، وقد قضى الله حاجتك . خرجه nindex.php?page=showalam&ids=12455ابن أبي الدنيا .
ولبعض المتقدمين في هذا المعنى :
عسى ما ترى أن لا يدوم وإن ترى له فرجا مما ألح به الدهر عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر إذا لاح عسر فارج اليسر فإنه قضى الله أن العسر يتبعه اليسر