الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

6034 - عن عمر - رضي الله عنه - ذكر عنده أبو بكر فبكى وقال : وددت أن عملي كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه ، وليلة واحدة من لياليه ، أما ليلته فليلة سار مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغار فلما انتهيا إليه قال : والله لا تدخله حتى أدخل قبلك ، فإن كان فيه شيء أصابني دونك ، فدخل فكسحه ، ووجد في جانبه ثقبا ، فشق إزاره ، وسدها له ، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه ، ثم قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادخل ، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع رأسه في حجره ونام فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك مخافة أن يشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسقطت دموعه على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( مالك يا أبا بكر ؟ ) قال : لدغت ، فداك أبي وأمي ، فتفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب ما يجده ، ثم انتقض عليه ، وكان سبب موته وأما يومه ، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدت العرب وقالوا : لا نؤدي زكاة فقال : لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه فقلت : يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! تألف الناس وارفق بهم فقال لي : أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام ؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي ؟ رواه رزين .

التالي السابق


الفصل الثالث

6034 - ( عن عمر - رضي الله عنه - ذكر عنده أبو بكر : جملة حالية ، وحاصله أنه روي عن عمر أنه ذكر عنده أبو بكر ( فبكى ) أي : عمر ( وقال : وددت أن عملي كله ) أي : في جميع الأيام ( مثل عمله ) أي : مثل عمل أبي بكر ( يوما واحدا من أيامه ) ، أي في زمن مماته - صلى الله عليه وسلم - ( وليلة واحدة من لياليه ) ، أي أوقات حياته - عليه السلام - والظاهر أن الواو بمعنى ( أو ) فإنه أبلغ في المبالغة باعتبار كل من الحالة أو التوزيع بحسب الوقتين المختلفين . ( أما ليلته فليلة سار ) : بالرفع والتنوين أي سافر وهاجر فيها ( مع رسول الله ) : وفي نسخة مع النبي ( صلى الله عليه وسلم إلى الغار ) : وفي بعض النسخ المصححة بفتح ( ليلة ) بنيت للإضافة إلى المبني ، وهو الأظهر . ( فلما انتهيا إليه ) أي : وصلا إلى الغار ( قال ) أي : أبو بكر ( والله لا تدخله ) : بالرفع وفي نسخة بالجزم ( حتى أدخل قبلك ) ، أي الغار لما ذكره بقوله ( فإن كان فيه شيء ) أي : مما يؤذي من عدو أو هوام ( أصابني دونك ، فدخل فكسحه ) ، أي كنسه ( ووجد في جانبه ) أي : في أحد أطرافه ( ثقبا ) ، بضم مثلثة وفتح قاف جمع ثقبة كغرفة وغرف ، وقد جاء ثقب كقفل وفلس كل منهما لغة في المفرد بمعنى الخرق والحجر ، لكن المراد هنا الجمع لقوله : فشق إزاره وسدها به ، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه ) ، أي جعل رجليه كاللقمتين لهما غاية للحرص على سدهما حيث لم يبقى من إزاره ما يدخلهما ( ثم قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادخل ، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع رأسه في حجره ) ، بكسر الحاء ، وفي نسخة بفتحها . ففي ( القاموس ) : الحجر بالكسر ويفتح الحضن وفي النهاية الحجر بالفتح والكسر الحضن والثواب ، وكذا في ( المشارق ) وزاد : وإذا أريد به المصدر فالفتح لا غير ، وإن أريد به الاسم فالكسر لا غير ( ونام ) ، أي النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن نوم العالم عبادة ، كما أن نوم الظالم عبادة باعتبارين مختلفين ( فلدغ أبو بكر في رجله ) : بدل من أبي بكر بدل البعض ، وجيء بفي بيانا لشدة تمكن اللدغ فيها كما في قول الشاعر :


يجرح في عراقيبها نصلي

.

[ ص: 3891 ] ( من الجحر ) أي : من أحد الجحرين ( ولم يتحرك ) أي : أبو بكر ( مخافة أن ينتبه ) : من باب الافتعال وفي نسخة أن يتنبه من باب التفعيل أي خشية أن يستيقظ ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، أي في غير أوانه فتصب على وجعه ( فسقطت دموعه على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : فاستنبه فرأى بكاءه ( فقال : ما لك يا أبا بكر ؟ ) قال : لدغت ، فداك أبي وأمي ) ، بفتح الفاء ويكسر ففي ( القاموس ) : فداه يفديه فداء وفدى ويفتح أعطى شيئا فأنقذه ، والفداء ككساء وكعلى وإلى ذلك المعطى اه . وقال الأصمعي : الفداء يمد ويقتصر ، أما المصدر من فاديت فممدود لا غير ، والفاء في كل ذلك مكسور . وحكى الفراء فذالله مقصور وممدود ومفتوح ، وفداك أبي وأمي فعل ماض مفتوح الأول ، أو يكون اسما على ما حكاه الفراء كذا في المشارق ( فتفل ) أي : بزق ( رسول الله ) ، أي : عليه كما في نسخة أي : على موضع اللدغ ( فذهب ما يجده ) ، أي ما كان يحسه من الألم ( ثم انتقض ) : بالقاف والمعجمة أي رجع ( أثر السم عليه ) ، وقال الطيبي ، أي : نكس الجرح بعد أن اندمل لتفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وكان ) أي : الانتقاض ( سبب موته ) . أي فحصل له شهادة في سبيل الله حالة كونه رفيقا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريقه ( وأما يومه ) ، أي أبي بكر ( فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدت العرب وقالوا : لا نؤدي زكاة ) : يحتمل أن يكون العطف تفسيريا لما قال بعض علمائنا : من قيل له أد الزكاة ، فقال ، لا أؤدي كفر . ( فقال : لو منعوني عقالا ) : بكسر أوله أي حبلا صغيرا ( لجاهدتهم عليه ) . أي لقاتلتهم على أخذه أو لأجل منعه ، ففي النهاية : أراد بالعقال الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة ، لأن على صاحبه التسليم ، وإنما يقع القبض بالرباط . وقيل : أراد ما يساوي عقالا من حقوق الصدقة ، وقيل : إذا أخذ المصدق أعيان الإبل ، وقيل : أخذ عقالا إذا أخذ أثمانها قيل : أخذ نقدا ، وقيل : أراد بالعقال صدقة العام ، يقال : أخذ المصدق عقال هذا العام إذا أخذ منهم صدقة وبعث فلان على عقال بني فلان إذا بعث على صدقاتهم ، واختاره أبو عبيد وقال : هذا أشبه عندي بالمعنى . وقال الخطابي : إنما يضرب المثل هذا بالأقل لا بالأكثر ، وليس بسائر في لسانهم أن العقال صدقة عام ، قلت : ولهذا قال أبو عبيد بالمعنى ، فلا اعتراض عليه بالمبنى ، وسببه استبعاد أن يقاتل على الشيء الحقير ، وإن كان قد يعبر عن الكثير بالقليل على قصد المبالغة كالنقير والقطمير ، ويؤيد إيماء أبي عبيد أنه في أكثر الروايات لو منعوني عناقا ، وفي أخرى : جديا .

قال الطيبي : قد جاء في الحديث ما يدل على القولين ، فمن الأول حديث عمر - رضي الله عنه - أنه كان يأخذ من كل فريضة عقالا ، فإذا جاءت إلى المدينة باعها ثم تصدق بها ، وحديث محمد بن سلمة أنه كان يعمل الصدقة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يأمر الرجل إذا جاء بفريضتين أن يأتي بعقالهما وقرانهما ، ومن الثاني حديث عمر أنه أخذ الصدقة عام الرمادة ، فلما أحيا الناس بعث عامله فقال : اعقل عنهم عقالين فاقسم فيهم عقالا وائتني بالآخر يزيد صدقة عامين اه . ولا خلاف في إطلاق العقال على كل منهما ، وإنما الخلاف في المراد به هنا ، والله أعلم .

( فقلت : يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تألف الناس ) أي : اطلب ألفتهم لا فرقتهم ( وارفق بهم ) : بضم الفاء أي : الطف بهم ولا تغلظ عليهم ( فقال لي : أجبار في الجاهلية ) أي : أنت شجيع متهور غضوب في زمن الجاهلية ( وخوار ) : بتشديد الواو أي : جبان وعطوف ( في الإسلام ) ؟ أي في أيامه وأحكامه ، مع أن ما ورد : من أن معادن العرب خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا مشعر بأن طباعهم الأصلية لم تتغير عن أحوالهم الأولية ، إنما يختلف إيقاعها في الأمور الدينية بعد ما كان يصرف حصولها في الحالات التعصبية من الأمور النفسية والعرفية ، ففي النهاية هو من خار يخور إذا ضعفت قوته ووهنت شوكته . قال الطيبي : أنكر عليه ضعفه ووهنه في الدين ، ولم يرد أن يكون جبارا بل أراد به التصلب والشدة في الدين ، لكن لما ذكر الجاهلية قرنه بذكر الجبار . قلت : هذا وهم [ ص: 3892 ] فإن المراد به أنه كان جبارا متسلطا متعديا عن الحد في الجاهلية وقد عفا الله عما سلف ، فهذا مما لا يضره أبدا ، ولا شك أن إرادة هذا المعنى أيضا أبلغ في تحصيل المدعي من المؤدي ( إنه ) أي : الشأن وهو استئناف تعليل ( قد انقطع الوحي ) أي : فلا نصل إلى التيقين ، فلابد لنا من الاجتهاد المبين ( وتم الدين ) : وفي نسخة فتم الدين أي لقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ( أينقص ) أي : الدين وهو بصيغة الفاعل ، وفي نسخة على بناء المفعول بناء على أنه لازم أو متعد ( وأنا حي ) . جملة حالية على طبق قولهم جاء زيد والشمس طالعة ( رواه رزين ) .

وفي ( الرياض ) ، ذكره من قوله : لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ثم قال : رواه النسائي هذا اللفظ ، ومعناه في الصحيحين . ونقل الحلبي في حاشية الشفاء للقاضي عياض ، عن أبي الحسن الأشعري أنه قال : لم يزل أبو بكر بعين الرضا من الله ، واختلف الناس في مراده بهذا الكلام فقال بعضهم : لم يزل مؤمنا قبل البعثة وبعدها وهو الصحيح المرضي . وقال آخرون : بل أراد أنه لم يزل بحاله غير مغضوب فيها عليه لعلم الله تعالى بأنه سيؤمن ويصير من خلاصة الأبرار . قال الشيخ تقي الدين السبكي : لو كان هذا مراده لاستوى الصديق وسائر الصحابة في ذلك ، وهذه العبارة التي قالها الأشعري في حق الصديق لم تحفظ عنه في حق غيره ، فالصواب أن الصديق لم يثبت عنه في حال كفر بالله اه . وهو الذي سمعناه من مشايخنا وممن يقتدى به ، وهو الصواب إن شاء الله .

ونقل ابن ظفر بل في أنباء نجباء الأنباء ، أن القاضي أبا الحسن أحمد بن محمد الزبيدي روى بإسناده في كتابه المسمى : ( معالي العرش إلى عوالي الفرش ) أن أبا هريرة قال : اجتمع المهاجرون والأنصار عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر : وعيشك يا رسول الله ! إني لم أسجد لصنم قط ، وقد كنت في الجاهلية كذا وكذا سنة ، وأن أبا قحافة أخذ بيدي وانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام فقال : هذه آلهتك الشم العلى ، فاسجد لها وخلاني ومضى ، فدنوت من الصنم فقلت : إني جائع فأطعمني فلم يجبني ، فقلت : إني عار فاكسني فلم يجبني ، فأخذت صخرة فقلت : إني ملق عليك هذه الصخرة فإن كنت إلها فامنع نفسك فلم يجبني ، فألقيت عليه الصخرة فخر لوجهه وأقبل أبي فقال : ما هذا يا بني فقلت : هو الذي ترى ، فانطلق بي إلى أمي فأخبرها فقالت : دعه فهو الذي ناجاني الله تعالى به فقلت : يا أمه ! ما الذي ناجاك به ؟ قالت : ليلة أصابني المخاض لم يكن عندي أحد ، فسمعت هاتفا يقول : يا أمة الله على التحقيق أبشري بالولد العتيق ، اسمه في السماء الصديق لمحمد صاحب ورفيق . قال أبو هريرة : فلما انقضى كلام أبي بكر نزل جبريل - عليه السلام - وقال : صدق أبو بكر اه . ومما يؤيده : كنت أنا وأبو بكر كفرسي رهان ، لأنه لو كان على الكفر لما صدق عليه هذا الأمر ، ولعل وجه ما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لو اتخذت أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ) هو أنه صدر عنه ما سبق مشابها لما وقع من الخليل في ضرب الصنم ومخالفة الأب ، والله أعلم .




الخدمات العلمية