الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ أمن ]

                                                          أمن : الأمان : والأمانة بمعنى . وقد أمنت فأنا أمن ، وآمنت غيري من الأمن والأمان . والأمن : ضد الخوف . والأمانة : ضد الخيانة . والإيمان : ضد الكفر . والإيمان : بمعنى التصديق ، ضده التكذيب . يقال : آمن به قوم وكذب به قوم ، فأما آمنته المتعدي فهو ضد أخفته . وفي التنزيل العزيز : وآمنهم من خوف . ابن سيده : الأمن نقيض الخوف ، أمن فلان يأمن أمنا وأمنا ; حكى هذه الزجاج ، وأمنة وأمانا فهو أمن . والأمنة : الأمن ; ومنه : أمنة نعاسا و ( إذ يغشاكم النعاس أمنة منه ) ، نصب أمنة لأنه مفعول له كقولك : فعلت ذلك حذر الشر ; قال ذلك الزجاج . وفي حديث نزول المسيح - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - : وتقع الأمنة في الأرض أي الأمن ، يريد أن الأرض تمتلئ بالأمن فلا يخاف أحد من الناس والحيوان . وفي الحديث : النجوم أمنة السماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى الأمة ما توعد ; أراد بوعد السماء انشقاقها وذهابها يوم القيامة . وذهاب النجوم : تكويرها وانكدارها وإعدامها ، وأراد بوعد أصحابه ما وقع بينهم من الفتن ، وكذلك أراد بوعد الأمة ، والإشارة في الجملة إلى مجيء الشر عند ذهاب أهل الخير ، فإنه لما كان بين الناس كان يبين لهم ما يختلفون فيه ، فلما توفي جالت الآراء واختلفت الأهواء ، فكان الصحابة يسندون الأمر إلى الرسول في قول أو فعل أو دلالة حال ، فلما فقد قلت الأنوار وقويت الظلم ، وكذلك حال السماء عند ذهاب النجوم ; قال ابن الأثير : والأمنة في هذا الحديث جمع أمين ، وهو الحافظ . وقوله عز وجل : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا [ ص: 164 ] ; قال أبو إسحاق : أراد ذا أمن فهو آمن وأمن وأمين ; عن اللحياني ورجل أمن وأمين بمعنى واحد . وفي التنزيل العزيز : وهذا البلد الأمين ، أي الآمن يعني مكة ، وهو من الأمن ، وقوله :

                                                          ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني حلفت يمينا لا أخون يميني



                                                          قال ابن سيده : إنما يريد آمني . ابن السكيت : والأمين المؤتمن . والأمين : المؤتمن ، من الأضداد ، وأنشد ابن الليث أيضا : لا أخون يميني أي الذي يأتمنني الجوهري : ، وقد يقال الأمين المأمون كما قال الشاعر :

                                                          لا أخون أميني أي مأموني . وقوله - عز وجل - : إن المتقين في مقام أمين ، أي قد أمنوا فيه الغير . وأنت في آمن أي في أمن كالفاتح . وقال أبو زياد : أنت في أمن من ذلك أي في أمان ، ورجل أمنة : يأمن كل أحد ، وقيل : يأمنه الناس ولا يخافون غائلته ; وأمنة أيضا : موثوق به مأمون ، وكان قياسه أمنة ، ألا ترى أنه لم يعبر عنه هاهنا إلا بمفعول ؟ اللحياني : يقال ما آمنت أن أجد صحابة إيمانا أي ما وثقت ، والإيمان عنده الثقة . ورجل أمنة ، بالفتح : للذي يصدق بكل ما يسمع ولا يكذب بشيء . ورجل أمنة أيضا إذا كان يطمئن إلى كل واحد ويثق بكل أحد ، وكذلك الأمنة مثال الهمزة . ويقال : آمن فلان العدو إيمانا ، فأمن يأمن والعدو مؤمن ، وأمنته على كذا وأتمنته بمعنى ، وقرئ : ( ما لك لا تأمننا على يوسف ) ، بين الإدغام والإظهار ; قال الأخفش : والإدغام أحسن : وتقول : اؤتمن فلان على ما لم يسم فاعله ، فإن ابتدأت به صيرت الهمزة الثانية واوا لأن كل كلمة اجتمع في أولها همزتان وكانت الأخرى منهما ساكنة ، فلك أن تصيرها واوا إذا كانت الأولى مضمومة ، أو ياء إن كانت الأولى مكسورة نحو إيتمنه ، أو ألفا إن كانت الأولى مفتوحة نحو آمن . وحديث ابن عمر : أنه دخل عليه ابنه فقال : إني لا إيمن أن يكون بين الناس قتال أي لا آمن ، فجاء به على لغة من يكسر أوائل الأفعال المستقبلة نحو يعلم ونعلم ، فانقلبت الألف ياء للكسرة قبلها . واستأمن إليه : دخل في أمانه ، وقد أمنه وآمنه . وقرأ أبو جعفر المدني : لست مؤمنا أي لا نؤمنك . والمأمن : موضع الأمن . والأمن : المستجير ليأمن على نفسه ; عن ابن الأعرابي وأنشد :


                                                          فأحسبوا لا أمن من صدق وبر     وسح أيمان قليلات الأشر



                                                          أي لا إجارة ، أحسبوه : أعطوه ما يكفيه وقرئ في سورة براءة : ( إنهم لا إيمان لهم ) ، من قرأه بكسر الألف ، معناه أنهم إن أجاروا ، وأمنوا المسلمين لم يفوا وغدروا والإيمان هاهنا الإجارة . والأمانة والأمنة : نقيض الخيانة لأنه يؤمن أذاه ، وقد أمنه وأمنه وأتمنه واتمنه ; عن ثعلب ، وهي نادرة ، وعذر من قال ذلك أن لفظه - إذا لم يدغم - يصير إلى صورة ما أصله حرف لين ، فذلك قولهم في افتعل من الأكل إيتكل ، ومن الإزرة إيتزر ، فأشبه حينئذ إيتعد في لغة من لم يبدل الفاء ياء ، فقال اتمن لقول غيره إيتمن ، وأجود اللغتين إقرار الهمزة ، كأن تقول ائتمن ، وقد يقدر مثل هذا في قولهم اتهل ، واستأمنه كذلك . وتقول : استأمنني فلان فآمنته أومنه إيمانا . وفي الحديث : المؤذن مؤتمن ; مؤتمن القوم : الذي يثقون إليه ويتخذونه أمينا حافظا ، تقول اؤتمن الرجل ، فهو مؤتمن يعني أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم . وفي الحديث : المجالس بالأمانة ; هذا ندب إلى ترك إعادة ما يجري في المجلس من قول أو فعل ، فكأن ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه ، والأمانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان ، وقد جاء في كل منها حديث . وفي الحديث : الأمانة غنى أي سبب الغنى ، ومعناه أن الرجل إذا عرف بها كثر معاملوه فصار ذلك سببا لغناه . وفي حديث أشراط الساعة : والأمانة مغنما أي يرى من في يده أمانة أن الخيانة فيها غنيمة قد غنمها . وفي الحديث : الزرع أمانة والتاجر فاجر ، جعل الزرع أمانة لسلامته من الآفات التي تقع في التجارة من التزيد في القول والحلف وغير ذلك . ويقال : ما كان فلان أمينا ، ولقد أمن يأمن أمانة . ورجل أمين وأمان أي له دين ، وقيل : مأمون به ثقة ; قال الأعشى :


                                                          ولقد شهدت التاجر ال     أمان مورودا شرابه



                                                          التاجر الأمان بالضم والتشديد : هو الأمين ، وقيل هو ذو الدين والفضل ، قال بعضهم : الأمان الذي لا يكتب لأنه أمي ، قال بعضهم : الأمان الزراع ، وقول ابن السكيت :


                                                          شربت من أمن دواء المشي     يدعى المشو ، طعمه كالشري



                                                          الأزهري : قرأت في نوادر الأعراب أعطيت فلانا من أمن مالي ، ولم يفسر ; قال أبو منصور : كأن معناه من خالص مالي ومن خالص دواء المشي . ابن سيده : ما أحسن أمنتك وإمنك أي دينك وخلقك . وآمن بالشيء : صدق وأمن كذب من أخبره . الجوهري : أصل آمن أأمن ، بهمزتين ، لينت الثانية ، ومنه المهيمن وأصله مؤأمن ، لينت الثانية وقلبت ياء وقلبت الأولى هاء ، قال ابن بري : قوله بهمزتين ، لينت الثانية ، صوابه أن يقول أبدلت الثانية ; أما ما ذكره في مهيمن من أن أصله مؤأمن لينت الهمزة الثانية وقلبت ياء لا يصح ، لأنها ساكنة ، وإنما تخفيفها أن تقلب ألفا لا غير ، قال : فثبت بهذا أن مهيمنا من هيمن فهو مهيمن لا غير . وحد الزجاج الإيمان فقال : الإيمان إظهار الخضوع والقبول للشريعة ولما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتقاده وتصديقه بالقلب ، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن مسلم غير مرتاب ولا شاك ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه لا يدخله في ذلك ريب . وفي التنزيل العزيز : وما أنت بمؤمن لنا ، أي بمصدق . والإيمان : التصديق . التهذيب : وأما الإيمان فهو مصدر آمن يؤمن إيمانا ، فهو مؤمن . واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم أن الإيمان معناه التصديق . قال الله - تعالى - : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا الآية ، قال : وهذا موضع يحتاج الناس إلى تفهيمه ، وأين ينفصل المؤمن من المسلم وأين يستويان ، والإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه يحقن الدم فإن كان مع [ ص: 165 ] ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب ، فذلك الإيمان الذي يقال للموصوف به هو مؤمن مسلم ، وهو المؤمن بالله ورسوله غير مرتاب ولا شاك ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه ، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه لا يدخله في ذلك ريب فهو المؤمن ، وهو المسلم حقا ، كما قال الله - عز وجل - : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ، أي أولئك الذين قالوا إنا مؤمنون فهم الصادقون ، فأما من أظهر قبول الشريعة واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم وباطنه غير مصدق ، فذلك الذي يقول أسلمت لأن الإيمان لا بد من أن يكون صاحبه صديقا ، لأن قولك آمنت بالله ، أو قال قائل آمنت بكذا وكذا ، فمعناه صدقت فأخرج الله هؤلاء من الإيمان ; فقال : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، أي لم تصدقوا إنما أسلمتم تعوذا من القتل ، فالمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر ، والمسلم التام الإسلام مظهر للطاعة مؤمن بها ، والمسلم الذي أظهر الإسلام تعوذا غير مؤمن في الحقيقة ، إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين . وقال الله - تعالى - حكاية عن إخوة يوسف لأبيهم : وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ، لم يختلف أهل التفسير أن معناه ما أنت بمصدق لنا ، والأصل في الإيمان الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها ، فإذا اعتقد التصديق بقلبه كما صدق بلسانه فقد أدى الأمانة ، وهو مؤمن ، ومن لم يعتقد التصديق بقلبه فهو غير مؤد للأمانة التي ائتمنه الله عليها ، وهو منافق ، ومن زعم أن الإيمان هو إظهار القول دون التصديق بالقلب فإنه لا يخلو من وجهين أحدهما أن يكون منافقا ينضح عن المنافقين تأييدا لهم ، أو يكون جاهلا لا يعلم ما يقول وما يقال له ، أخرجه الجهل واللجاج إلى عناد الحق وترك قبول الصواب ، أعاذنا الله من هذه الصفة وجعلنا ممن علم فاستعمل ما علم ، أو جهل فتعلم ممن علم ، وسلمنا من آفات أهل الزيغ والبدع بمنه وكرمه . وفي قول الله - عز وجل - : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ; ما يبين لك أن المؤمن هو المتضمن لهذه الصفة ، وأن من لم يتضمن هذه الصفة فليس بمؤمن ، لأن إنما في كلام العرب تجيء لتثبيت شيء ونفي ما خالفه ، ولا قوة إلا بالله . وأما قوله - عز وجل - : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ، فقد روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما قالا : الأمانة هاهنا الفرائض التي افترضها الله - تعالى - على عباده ; قال ابن عمر : عرضت على آدم الطاعة والمعصية وعرف ثواب الطاعة وعقاب المعصية ; قال : والذي عندي فيه أن الأمانة هاهنا النية التي يعتقدها الإنسان فيما يظهره باللسان من الإيمان ويؤديه من جميع الفرائض في الظاهر ، لأن الله - عز وجل - ائتمنه عليها ولم يظهر عليها أحدا من خلقه ، فمن أضمر من التوحيد والتصديق مثل ما أظهر فقد أدى الأمانة ومن أضمر التكذيب ، وهو مصدق باللسان في الظاهر فقد حمل الأمانة ولم يؤدها ، وكل من خان فيما اؤتمن عليه فهو حامل ، والإنسان في قوله : وحملها الإنسان ، هو الكافر الشاك الذي لا يصدق - وهو الظلوم الجهول - يدلك على ذلك قوله : ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما . وفي حديث ابن عباس قال : الإيمان أمانة ، ولا دين لمن لا أمانة له ، وفي حديث آخر : لا إيمان لمن لا أمانة له . وقوله - عز وجل - : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين ; قال ثعلب : المؤمن بالقلب والمسلم باللسان ، قال الزجاج : صفة المؤمن بالله أن يكون راجيا ثوابه خاشيا عقابه . وقوله - تعالى - : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ; قال ثعلب : يصدق الله ويصدق المؤمنين ، وأدخل اللام للإضافة ، قال بعضهم : لا تجده مؤمنا حتى تجده مؤمن الرضا مؤمن الغضب أي مؤمنا عند رضاه مؤمنا عند غضبه . وفي حديث أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المؤمن من أمنه الناس ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر السوء ، والذي نفسي بيده لا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه . وفي الحديث عن ابن عمر قال : أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من المهاجر ؟ فقال : من هجر السيئات ، قال : فمن المؤمن ؟ قال : من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ، قال : فمن المسلم ؟ قال : من سلم المسلمون من لسانه ويده ، قال : فمن المجاهد ؟ قال : من جاهد نفسه . قال النضر : وقالوا للخليل : ما الإيمان ؟ قال : الطمأنينة ، قال : وقالوا للخليل : تقول أنا مؤمن ; قال : لا أقوله وهذا تزكية . ابن الأنباري : رجل مؤمن مصدق لله ورسوله . وآمنت بالشيء إذا صدقت به ; قال الشاعر :


                                                          ومن قبل آمنا وقد كان قومنا     يصلون للأوثان قبل محمدا



                                                          معناه ، ومن قبل آمنا محمدا أي صدقناه ، قال : والمسلم المخلص العبادة . وقوله - عز وجل - في قصة موسى - عليه السلام - : وأنا أول المؤمنين ، أراد أنا أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا . وفي الحديث : نهران مؤمنان ونهران كافران أما المؤمنان فالنيل والفرات ، وأما الكافران فدجلة ونهر بلخ ، جعلهما مؤمنين على التشبيه لأنهما يفيضان على الأرض فيسقيان الحرث بلا مئونة ، وجعل الآخرين كافرين لأنهما لا يسقيان ولا ينتفع بهما إلا بمئونة وكلفة ، فهذان في الخير والنفع كالمؤمنين ، وهذان في قلة النفع كالكافرين . وفي الحديث : لا يزني الزاني ، وهو مؤمن . قيل : معناه النهي ، وإن كان في صورة الخبر والأصل حذف الياء من يزني أي لا يزن المؤمن ولا يسرق ولا يشرب ، فإن هذه الأفعال لا تليق بالمؤمنين ، وقيل : هو وعيد يقصد به الردع كقوله - عليه السلام - : لا إيمان لمن لا أمانة له ، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده ، وقيل : معناه لا يزني وهو كامل الإيمان ، وقيل : معناه أن الهوى يغطي الإيمان ، فصاحب الهوى لا يزني إلا هواه ولا ينظر إلى إيمانه الناهي له عن ارتكاب الفاحشة ، فكأن الإيمان في تلك الحالة قد انعدم ; قال : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : الإيمان نزه فإذا أذنب العبد فارقه ; ومنه الحديث : إذا [ ص: 166 ] زنى الرجل خرج منه الإيمان ، فكان فوق رأسه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان ، قال : وكل هذا محمول على المجاز ونفي الكمال دون الحقيقة ورفع الإيمان وإبطاله . وفي حديث الجارية : أعتقها فإنها مؤمنة ; إنما حكم بإيمانها بمجرد سؤاله إياها : أين الله ؟ وإشارتها إلى السماء ، وبقوله لها : من أنا ؟ فأشارت إليه وإلى السماء ، يعني أنت رسول الله ، وهذا القدر لا يكفي في ثبوت الإسلام والإيمان دون الإقرار بالشهادتين والتبري من سائر الأديان ، وإنما حكم - عليه السلام - بذلك لأنه رأى منها أمارة الإسلام وكونها بين المسلمين وتحت رق المسلم ، وهذا القدر يكفي علما لذلك ، فإن الكافر إذا عرض عليه الإسلام لم يقتصر منه على قوله إني مسلم حتى يصف الإسلام بكماله وشرائطه ، فإذا جاءنا من نجهل حاله في الكفر والإيمان ، فقال إني مسلم قبلناه ، فإذا كان عليه أمارة الإسلام من هيئة وشارة ودار كان قبول قوله أولى ، بل يحكم عليه بالإسلام وإن لم يقل شيئا . وفي حديث عقبة بن عامر : أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص ; كأن هذا إشارة إلى جماعة آمنوا معه خوفا من السيف وأن عمرا كان مخلصا في إيمانه ، وهذا من العام الذي يراد به الخاص . وفي الحديث : ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي أي آمنوا عند معاينة ما آتاهم من الآيات والمعجزات ، وأراد بالوحي إعجاز القرآن الذي خص به ، فإنه ليس شيء من كتب الله المنزلة كان معجزا إلا القرآن . وفي الحديث : من حلف بالأمانة فليس منا ; قال ابن الأثير : يشبه أن تكون الكراهة فيه لأجل أنه أمر أن يحلف بأسماء الله وصفاته ، والأمانة أمر من أموره ، فنهوا عنها من أجل التسوية بينها وبين أسماء الله ، كما نهوا أن يحلفوا بآبائهم . وإذا قال الحالف : وأمانة الله ، كانت يمينا عند أبي حنيفة ، والشافعي لا يعدها يمينا . وفي الحديث : استودع الله دينك وأمانتك ، أي أهلك ومن تخلفه بعدك منهم ، ومالك الذي تودعه وتستحفظه أمينك ووكيلك . والأمين : القوي لأنه يوثق بقوته . وناقة أمون : أمينة وثيقة الخلق ، قد أمنت أن تكون ضعيفة ، وهي التي أمنت العثار والإعياء ، والجمع أمن قال : وهذا فعول جاء في موضع مفعولة ، كما يقال : ناقة عضوب وحلوب . وآمن المال : ما قد أمن لنفاسته أن ينحر ، عنى بالمال الإبل ، وقيل : هو الشريف من أي مال كان ، كأنه لو عقل لأمن أن يبذل ; قال الحويدرة :


                                                          ونقي بآمن مالنا أحسابنا     ونجر في الهيجا الرماح وندعي



                                                          قوله : ونقي بآمن مالنا أي ونقي بخالص مالنا ، ندعي ندعو بأسمائنا فنجعلها شعارا لنا في الحرب . وآمن الحلم : وثيقه الذي قد أمن اختلاله وانحلاله ; قال :


                                                          والخمر ليست من أخيك ول     كن قد تغر بآمن الحلم



                                                          ويروى : قد تخون بثامر الحلم أي بتامه . التهذيب : والمؤمن من أسماء الله - تعالى - الذي وحد نفسه بقولهوإلهكم إله واحد ، وبقوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وقيل : المؤمن في صفة الله الذي آمن الخلق من ظلمه ، وقيل : المؤمن الذي آمن أولياءه عذابه ، قال : قال ابن الأعرابي ، قال المنذري : سمعت أبا العباس يقول : المؤمن عند العرب المصدق يذهب إلى أن الله - تعالى - يصدق عباده المسلمين يوم القيامة إذا سئل الأمم عن تبليغ رسلهم ، فيقولون : ما جاءنا من رسول ولا نذير ، ويكذبون أنبياءهم ، ويؤتى بأمة محمد فيسألون عن ذلك فيصدقون الماضين فيصدقهم الله ، ويصدقهم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله - تعالى - : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، وقوله : ويؤمن للمؤمنين ، أي يصدق المؤمنين ، وقيل : المؤمن الذي يصدق عباده ما وعدهم ، وكل هذه الصفات لله - عز وجل - لأنه صدق بقوله ما دعا إليه عباده من توحيد ، وكأنه آمن الخلق من ظلمه وما وعدنا من البعث والجنة لمن آمن به ، والنار لمن كفر به فإنه مصدق وعده لا شريك له . قال ابن الأثير : في أسماء الله - تعالى - المؤمن هو الذي يصدق عباده وعده فهو من الإيمان التصديق ، أو يؤمنهم في القيامة عذابه فهو من الأمان ضد الخوف . المحكم : المؤمن ، الله - تعالى - يؤمن عباده من عذابه ، وهو المهيمن ; قال الفارسي : الهاء بدل من الهمزة والياء ملحقة ، ببناء مدحرج ; قال ثعلب : هو المؤمن المصدق لعباده ، والمهيمن الشاهد على الشيء القائم عليه . والإيمان : الثقة . وما آمن أن يجد صحابة أي ما وثق ، وقيل : معناه ما كاد . والمأمونة من النساء : المستراد لمثلها . قال ثعلب : في الحديث الذي جاء : ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع ; معنى ما آمن بي شديد أي ينبغي له أن يواسيه . وآمين وأمين : كلمة تقال في إثر الدعاء ; قال الفارسي : هي جملة مركبة من فعل واسم معناه اللهم استجب لي ، قال : ودليل ذلك أن موسى - عليه السلام - لما دعا على فرعون وأتباعه ، فقال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ، قال هارون - عليه السلام - : آمين ، فطبق الجملة بالجملة ، وقيل : معنى آمين كذلك يكون ، ويقال : أمن الإمام تأمينا إذا قال بعد الفراغ من أم الكتاب : آمين ، وأمن فلان تأمينا . الزجاج في قول القارئ بعد الفراغ من فاتحة الكتاب آمين : فيه لغتان : تقول العرب أمين بقصر الألف ، وآمين بالمد ، والمد أكثر ، وأنشد في لغة من قصر :


                                                          تباعد مني فطحل إذ سألته     أمين فزاد الله ما بيننا بعدا



                                                          روى ثعلب : فطحل ، بضم الفاء والحاء ، أراد زاد الله ما بيننا بعدا أمين ، وأنشد ابن بري لشاعر :


                                                          سقى الله حيا بين صارة والحمى     حمى فيد صوب المدجنات المواطر
                                                          أمين ورد الله ركبا إليهم     بخير ووقاهم حمام المقادر



                                                          ، وقال عمر بن أبي ربيعة في لغة من مد آمين :


                                                          يا رب لا تسلبني حبها أبدا     ويرحم الله عبدا قال آمينا



                                                          [ ص: 167 ] قال : ومعناهما اللهم استجب ، وقيل : هو إيجاب رب افعل ، قال : وهما موضوعان في موضع اسم الاستجابة كما أن صه موضوع موضع سكوتا ; قال : وحقهما من الإعراب الوقف لأنهما بمنزلة الأصوات إذا كانا غير مشتقين من فعل ، إلا أن النون فتحت فيهما لالتقاء الساكنين ولم تكسر النون لثقل الكسرة بعد الياء ، كما فتحوا أين وكيف ، وتشديد الميم خطأ ، وهو مبني على الفتح مثل أين وكيف لاجتماع الساكنين . قال ابن جني : قال أحمد بن يحيى : قولهم آمين هو على إشباع فتحة الهمزة ، ونشأت بعدها ألف ، قال : فأما قول أبي العباس إن آمين بمنزلة عاصين فإنما يريد به أن الميم خفيفة كصاد عاصين ، لا يريد به حقيقة الجمع ، وكيف ذلك ، وقد حكي عن الحسن - رحمه الله - أنه قال : آمين اسم من أسماء الله - عز وجل - وأين لك في اعتقاد معنى الجمع مع هذا التفسير ؟ وقال مجاهد : آمين اسم من أسماء الله ; قال الأزهري : وليس يصح كما قاله عند أهل اللغة أنه بمنزلة يا الله وأضمر " استجب لي " ، قال : ولو كان كما قال لرفع إذا أجري ولم يكن منصوبا . وروى الأزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة في قوله - تعالى - : واستعينوا بالصبر والصلاة ، قالت : غشي على عبد الرحمن بن عوف غشية ظنوا أن نفسه خرجت فيها ، فخرجت امرأته أم كلثوم إلى المسجد تستعين بما أمرت أن تستعين به من الصبر والصلاة ، فلما أفاق قال : أغشي علي ؟ قالوا : نعم ، قال : صدقتم إنه أتاني ملكان في غشيتي ، فقالا : انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين ، قال : فانطلقا بي ، فلقيهما ملك آخر فقال : وأين تريدان به ؟ قالا : نحاكمه إلى العزيز الأمين ، قال : فارجعاه فإن هذا ممن كتب الله لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم ، وسيمتع الله به نبيه ما شاء الله ، قال : فعاش شهرا ثم مات . والتأمين : قول آمين . وفي حديث أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين ; قال أبو بكر : معناه أنه طابع الله على عباده لأنه يدفع به عنهم الآفات والبلايا ، فكان كخاتم الكتاب الذي يصونه ويمنع من فساده وإظهار ما فيه لمن يكره علمه به ووقوفه على ما فيه . وعن أبي هريرة أنه قال : آمين درجة في الجنة ; قال أبو بكر : معناه أنها كلمة يكتسب بها قائلها درجة في الجنة . وفي حديث بلال : لا تسبقني بآمين ; قال ابن الأثير : يشبه أن يكون بلال كان يقرأ الفاتحة في السكتة الأولى من سكتتي الإمام ، فربما يبقى عليه منها شيء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فرغ من قراءتها فاستمهله بلال في التأمين بقدر ما يتم فيه قراءة بقية السورة حتى ينال بركة موافقته في التأمين .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية