الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل .

                                                                                                                          وإن ادعى على غائب أو مستتر في البلد أو ميت أو صبي أو مجنون وله بينة ، سمعها الحاكم وحكم بها .

                                                                                                                          وهل يحلف المدعي أنه لم يبرأ منه ؛ ولا من شيء منه ؛ على روايتين .

                                                                                                                          ثم إذا قدم الغائب ، وبلغ الصبي ، أو أفاق المجنون فهو على حجته . وإن كان الخصم في البلد غائبا عن المجلس لم تسمع البينة حتى يحضر . فإن امتنع عن الحضور ، سمعت البينة وحكم بها ، في إحدى الروايتين ، والأخرى لا تسمع حتى يحضر . فإن أبى ، بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره . فإن تكرر منه الاستتار ، أقعد على بابه من يضيق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر . وإن ادعى أن أباه مات عنه وعن أخ له غائب وله مال في يد فلان أو دين عليه ، فأقر عليه ، أو ثبتت ببينة سلم إلى المدعي نصيبه ، وأخذ الحاكم نصيب الغائب فيحفظه له . ويحتمل أنه إذا كان المال دينا أن يترك نصيب الغائب في ذمة الغريم حتى يقدم . وإن ادعى إنسان أن الحاكم حكم له بحق فصدقه ، قبل قول الحاكم وحده . وإن لم يذكر الحاكم ذلك ، فشهد عدلان أنه حكم له به قبل شهادتهما وأمضى القضاء ، وكذلك إن شهدا أن فلانا وفلانا شهدا عندك بكذا ، قبل شهادتهما . وإن لم يشهد به أحد ، لكن وجده في قمطره تحت ختمه بخطه فهل ينفذه ؛ على روايتين . وكذلك الشاهد إذا رأى خطه في كتاب بشهادة ولم يذكرها ، فهل له أن يشهد بها ؛ على روايتين .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل .

                                                                                                                          ( وإن ادعى على غائب ) مسافة قصر . ( أو مستتر في البلد ) أو في دون مسافة قصر . ( أو ميت أو صبي أو مجنون ) وعبارة " الفروع " : أو غير مكلف . وهي أحسن . ( وله بينة سمعها الحاكم وحكم بها ) قدمه في " الكافي " و " المحرر " [ ص: 90 ] و " المستوعب " و " الفروع " ، وجزم به في " الوجيز " ، ونصره في " الشرح " ، واختاره الخلال وصاحبه ، لحكمه - عليه السلام - على أبي سفيان في حديث هند ولم يكن حاضرا ، ولأن عدم سماعها يفضي إلى تأخير الحق مع إمكان استيفائه ، والسماع من أجل الحكم . وليس تقدم الإنكار هنا شرطا . ولو فرض إقراره فهو تقوية لثبوته . قال في " الترغيب " ، وغيره : لا تفتقر البينة إلى جحود ، إذ الغيبة كالسكوت ، والبينة تسمع على ساكت . لكن لو قال : هو معترف ، وأنا أقيم البينة استظهارا . لم تسمع . وقاله الآدمي . وقد علم أن المستتر والميت كالغائب ، بل أولى ; لأن المستتر لا عذر له بخلاف الغائب . وأما الصبي والمجنون فإنهما لا يعبران عن أنفسهما .

                                                                                                                          وظاهره : أنه إذا لم تكن له بينة لم تسمع دعواه . الفائدة : ولا يقضى على غائب بحق لله ; لأن مبناه على المساهلة . فإن تعلق به حق آدمي كالسرقة قضى بالغرم دون القطع ، وفي حد القاذف وجهان . ( وهل يحلف المدعي أنه لم يبرأ منه ؛ ولا من شيء منه ؛ على روايتين ) :

                                                                                                                          إحداهما : لا يستحلف على بقاء حقه . اختاره الأكثر ، وذكره في " الشرح " ظاهر المذهب ; لقوله - عليه السلام - : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر وكما لو كانت على حاضر .

                                                                                                                          والثانية : بلى ، قدمها في " المحرر " ، وجزم بها في " الوجيز " وصححها في [ ص: 91 ] " الرعاية " ، وقالها أكثر العلماء ، لأنه يجب الاحتياط ، ولأنه يحتمل أن يكون قضاه أو غير ذلك . وكما لو كان حاضرا فادعى بعض ذلك وطلب اليمين ، ولا يتعرض في يمينه لصدق البينة لكمالها ، بخلاف ما إذا قام شاهدا ، فإنه يحلف معه ولا يلين مع بينة إلا هنا ; لأن فيه طعنا على البينة . وعنه : بلى ، فعله علي . وعنه : مع ريبة ، وليس ببعيد . وعنه : لا يحكم على غائب ونحوه . اختاره ابن أبي موسى . وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب . وذكر ابن هبيرة عن أحمد : أنه لا يحكم على غائب بحال ، إلا أن يتعلق الحكم للحاضر ، مثل : أن يكون وكيل الغائب ، أو وصي ، أو جماعة شركاء في شيء فيدعي على أحدهم وهو حاضر ، فيحكم عليه وعلى الغائب . ( ثم إذا قدم الغائب ، وبلغ الصبي ، أو أفاق المجنون فهو على حجته ) لأن المانع إذا زال صار كالحاضر المكلف . فإن قدم الغائب قبل الحكم لم تجب إعادة البينة ، لكن يخبره الحاكم بالحال ويمكنه من الجرح ، فإن جرح البينة بعد أداء الشهادة أو مطلقا لم يقبل ، لجواز كونه بعد الحكم فلا يقدح فيه ، وإلا قبل . ( وإن كان الخصم في البلد غائبا عن المجلس ) أو غائبا عنها دون مسافة القصر غير ممتنع . ( لم تسمع ) الدعوى ولا ( البينة حتى يحضر ) ، لأن حضوره ممكن ، فلم يجز الحكم عليه مع حضوره ، كحاضر مجلس الحكم ، بخلاف الغائب . ( فإن امتنع عن الحضور ، سمعت البينة وحكم بها في إحدى الروايتين ) قدمها في " الفروع " وهي أشهر ، لأنها إذا سمعت على غائب وحكم بها ، فلأن تسمع على الحاضر الممتنع بطريق الأولى ; لأن الحاضر الممتنع لا عذر له . ( والأخرى لا تسمع [ ص: 92 ] حتى يحضر ) لقوله - عليه السلام - : لا يقضي للأول حتى يسمع كلام الثاني . فعلى هذا لو لم يقدر عليه وأصر على الاستتار ، حكم عليه . نص عليه . فإن وجد له مالا وفاه منه . وإلا قال للمدعي : إن عرفت له مالا وثبت عندي ، وفيتك منه . ونقل أبو طالب : يسمعان ، ولكن لا يحكم عليه حتى يحضر . قال في " المحرر " : وهو الأصح . ( فإن أبى ، بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره ) فعلى هذا ينفذ من يقول في منزله ثلاثة أيام القاضي يطلبه إلى مجلس الحكم فأخبروه ، ويحرم أن يدخل عليه بيته . لكن صرح في " التبصرة " : إن صح عند الحاكم أنه في منزله ، أمر بالهجوم عليه وإخراجه . ونصه : يحكم بعد ثلاثة أيام . جزم به في " الترغيب " وغيره .

                                                                                                                          وظاهر نقل الأثرم : يحكم عليه إذا خرج . قال : لأنه قد صار في حرمه ، كمن لجأ إلى الحرم . ( فإن تكرر منه الاستتار ، أقعد على بابه من يضيق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر ) إذ الحاكم يضيق عليه بما يراه حتى يحضر . والحكم للغائب ممتنع .

                                                                                                                          قال في " الترغيب " : لامتناع سماع البينة له ، والكتابة له إلى قاض آخر ، ليحكم له بكتابه ، بخلاف الحكم عليه . ويصح تبعا . ونبه عليه بقوله : ( وإن ادعى أن أباه مات عنه وعن أخ له غائب ) أو غير رشيد . ( وله مال في يد فلان أو دين عليه ، فأقر ) المدعى ( عليه ، أو ثبت ببينة سلم إلى المدعي نصيبه ، وأخذ الحاكم [ ص: 93 ] نصيب الغائب فيحفظه له ) قدمه في " المحرر " و " الرعاية " و " الفروع " ، وجزم به في " الوجيز " ، لأن حقه ثبت ، وذلك يوجب تسليم نصيبه إليه . وكذا حكمه بوقف يدخل فيه من لم يخلق تبعا ، وإثبات أحد الوكيلين الوكالة في غيبة الآخر ، فتثبت له تبعا وسؤال أحد الغرماء الحجر كالكل ، وقد سبق .

                                                                                                                          قال الشيخ تقي الدين : والقضية الواحدة المشتملة على عدد أو أعيان كولد الأبوين في المشركة ، أن الحكم فيها لواحد أو عليه يعمه وغيره ، وحكمه لطبقة حكم للثانية إن كان الشرط واحدا ، ثم من أبدى ما يجوز أن يمنع الأول من الحكم عليه ، فللثاني الدفع به . ( ويحتمل أنه إذا كان المال دينا أن يترك نصيب الغائب ) وغير الرشيد . ( في ذمة الغريم حتى يقدم ) ويرشد الآخر ، لأنه لا يؤمن عليه التلف إذا قبضه . فإن تعذر أخذ الباقي شارك الآخر فيما أخذه . فإذا حضر الغائب ، ورشد الآخر لم تعد الدعوى إلا من جهة غير الإرث . وإن أقام الحاضر الرشيد شاهدا وحلف معه في الإرث ، أخذ حقه . فإذا حضر الغائب ورشد الآخر حلفا بدون إعادة البينة ، إلا في غير الإرث ، ذكره في " الرعاية " .

                                                                                                                          والأول أولى ; لأنه تعرض التلف بفلس وموت وعزل الحاكم وتعذر البينة ، وكالمنقول . وكما لو أجره صغيرا أو مجنونا ، ثم إذا دفعنا إلى الحاضر نصف العين أو الدين لم يطالبه بضمين ، لأن فيه طعنا على الشهود .

                                                                                                                          قال الأصحاب : سواء كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة أو لا .

                                                                                                                          [ ص: 94 ] ويحتمل أن لا تقبل شهادتهما في نفي وارث آخر ، حتى يكونا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة .

                                                                                                                          فعلى هذا : يسأل الحاكم ، ويأمر مناديا ينادي أن فلانا مات ، فإن كان له وارث فليأت ، فإذا غلب على ظنه أنه لو كان له وارث لظهر دفع الحاكم إليه نصيبه .

                                                                                                                          فرع : إذا كان مع الابن ذو فرض فعلى المذهب : يعطى فرضه كاملا . وعلى الآخر : يعطى اليقين . وإن كانت له زوجة أعطيت ربع الثمن عائلا ، فيكون ربع التسع لجواز أن يكون له أربع زوجات . وإن كانت له جدة وثبت موت أمه أعطيتها ثلث السدس . وتعطاه عائلا فيكون ثلث العشر ، ولا يعطى العصبة شيئا . مسألة : إذا اختلفا في دار في يد أحدهما ، فأقام المدعي بينة أن الدار كانت له أمس ، ملكه ، أو منذ شهر سمعت البينة وقضي بها في الأشهر ، لأنه ثبت الملك في الماضي ، فإذا ثبت استديم حتى يعلم زواله ، ولا تسمع في وجه ، صححه القاضي . لكن إن انضم إلى شهادته بيان سبب يد الثاني ، سمعت وقضي بها . فإن أقر المدعى عليه أن كانت للمدعي أمس ، سمع إقراره في الصحيح وحكم به .

                                                                                                                          ويفارق البينة من وجهين : أحدهما : أنه أقوى من البينة .

                                                                                                                          الثاني : أن البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه ، والدعوى يجب أن تكون متعلقة بالحال ، والإقرار يسمع ابتداء . ( وإن ادعى إنسان أن الحاكم حكم له [ ص: 95 ] بحق فصدقه ، قبل قول الحاكم وحده ) كما لو أقر خصمه في مجلس الحكم ، فسأل المدعي الحاكم عن إقراره ، فقال : نعم . وليس هذا حكما بعلم ، إنما هو إمضاء الحكم السابق . وقال ابن حمدان : إن منعنا الحكم بعلمه ، فلا . ( وإن لم يذكر الحاكم ذلك ، فشهد عدلان أنه حكم له به قبل شهادتهما وأمضى القضاء ) لقدرته على إمضائه . وهذا قول ابن أبي ليلى ، ومحمد بن الحسن .

                                                                                                                          وذكر ابن عقيل لا يقبلهما . وهو مروي عن الحنفية والشافعية ; لأنه يمكنه الرجوع إلى العلم والاحتياط فلا يرجع إلى الظن ، كالشاهد إذا نسي شهادته ، فشهد عنده شاهدان أنه شهد ، لم يكن له أن يشهد . وجوابه : أنهما لو شهدا عنده بحكم غيره قبل ، فكذا إذا شهدا عنده بحكمه . وما ذكروه لا يستقيم ; لأن ذكر ما نسيه ليس إليه ، والحاكم يمضي ما حكم به إذا ثبت عنده ، والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته .

                                                                                                                          ومحل ما ذكره المؤلف ما لم يتيقن صواب نفسه ، فإن تيقنه لم يقبلهما ; لقصة ذي اليدين . ( وكذلك إن شهدا أن فلانا وفلانا شهدا عندك بكذا ، قبل شهادتهما ) كما تقبل شهادتهما على الحق نفسه . ( وإن لم يشهد به أحد ، لكن وجده في قمطره تحت ختمه بخطه ) وتيقنه ، ذكره لأصحاب ولم يذكره . ( فهل ينفذه ؛ على روايتين ) : إحداهما : لا يعمل به ، إلا أن يذكره . نص عليه في الشهادة . [ ص: 96 ] وذكر القاضي وأصحابه : المذهب . وفي " الترغيب " : هو الأشهر . وقدمه في " الرعاية " و " الفروع " ; لأنه حكم حاكم لم يعلمه ، فلم يجز إنفاذه إلا ببينة كحكم غيره . ولأنه يجوز أن يزور عليه ، وعلى خطه وختمه ، وكخط أبيه بحكم أو شهادة ، لم يشهد ولم يحكم بها إجماعا .

                                                                                                                          والثانية : يحكم به . اختاره في " الترغيب " ، وقدمه في " المحرر " ، وجزم به الآدمي ، وصاحب " الوجيز " .

                                                                                                                          قال المؤلف : وهذا الذي رأيته عن أحمد في الشاهد ; لأنه إذا كان في قمطره تحت ختمه لم يحتمل إلا أن يكون صحيحا ، إلا احتمالا بعيدا كاحتمال كذب الشاهدين .

                                                                                                                          والثالثة : ينفذه مطلقا سواء كان في حرزه وحفظه كقمطره ، أو لا .

                                                                                                                          فإن قلت : لو وجد في دفتر أبيه حقا على إنسان ، جاز أن يدعيه ويحلف عليه . قلنا : هذا يخالف الحكم والشهادة ، بدليل الإجماع على أنه لو وجد خط أبيه بشهادة ، لم يجز أن يحكم بها ولا يشهد بها . ولو وجد حكم أبيه مكتوبا بخطه لم يجز له إنفاذه ، ولأنه يمكنه الرجوع فيما حكم به إلى نفسه ، لأنه فعله فروعي ذلك . وأما ما كتبه أبوه فلا يمكنه الرجوع فيه إلى نفسه ، فيكفي فيه الظن . ( وكذلك الشاهد إذا رأى خطه ) جزما ( في كتاب بشهادة ولم يذكرها ، فهل له أن يشهد [ ص: 97 ] بها ؛ على روايتين ) أي : فيها الخلاف السابق . وعلل في " الشرح " الجواز بأن الظاهر أنها خطه . وفي " الرعاية " : لو ضاع أو انمحى لم يضره ، ولو شهد بخلافه صح .

                                                                                                                          فرع : إذا أخبر حاكم آخر بحكم أو ثبوت عمل به مع غيبة المخبر .

                                                                                                                          وفي " الرعاية " : عن المجلس ويقبل خبره في غير عملهما ، أو في عمل أحدهما .

                                                                                                                          وعند القاضي : لا يقبل ، إلا أن يخبر في عمله حاكما في غير عمله ، فيعمل به إذا بلغ عمله وجاز حكمه بعلمه ، وجزم به في " الترغيب " ، ثم قال : وإن كانا في ولاية المخبر فوجهان .

                                                                                                                          وفيه إذا قال : سمعت البينة ، فاحكم . لا فائدة فيه مع حياة البينة ، بل عند العجز عنها .




                                                                                                                          الخدمات العلمية