الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          196 - فصل

                          المذهب الثاني : أنهم في النار .

                          وهذا قول جماعة من المتكلمين ، وأهل التفسير ، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد ، وحكاه القاضي نصا عن أحمد ، وغلطه شيخنا كما سيأتي بيان ذلك .

                          واحتج هؤلاء بحجج : منها حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل ، عن بهية ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المسلمين : أين هم ؟ قال : " في الجنة " وسألته عن أولاد المشركين : أين هم يوم القيامة ؟ قال : " في النار " فقلت : لم يدركوا [ ص: 1093 ] الأعمال ، ولم تجر عليهم الأقلام ، قال : " ربك أعلم بما كانوا عاملين ، والذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار " .

                          ولكن هذا الحديث قد ضعفه جماعة من الحفاظ .

                          [ ص: 1094 ] قال أبو عمر : أبو عقيل هذا لا يحتج بمثله عند أهل النقل . وهذا الحديث لو صح لاحتمل من الخصوص ما احتمل غيره .

                          قال : ومما يدل على أنه خصوص لقوم من المشركين قوله : " لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار " ، وهذا لا يكون إلا فيمن قد مات ، وصار في النار .

                          قال : وقد عارض هذا الحديث ما هو أقوى منه من الآثار .

                          قلت : مراد أبي عمر : أن هذا خاص ببعض أطفال المشركين الذين ماتوا ، ودخلوا النار ، ولا يلزم منه أن يكون هذا حكما عاما لجميع الأطفال .

                          وهذا صحيح يتعين المصير إليه جمعا بينه وبين حديث سمرة الذي رواه البخاري في " صحيحه " ، وهو صريح بأنهم في الجنة كما سيأتي .

                          [ ص: 1095 ] واحتجوا بحديث عمر بن ذر ، عن يزيد بن أمية أن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أرسل إلى عائشة - رضي الله عنها - يسألها عن الأطفال ، فقالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : يا رسول الله ، ذراري المؤمنين ؟ قال : " من آبائهم " ، قلت : بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " قلت : يا رسول الله ، فذراري المشركين ؟ قال : " هم من آبائهم " ، قلت : يا رسول الله ، بلا عمل ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " هكذا قال مسلم بن قتيبة .

                          [ ص: 1096 ] وقد رواه غيره ، عن عمر بن ذر ، عن يزيد ، عن رجل ، عن البراء .

                          ورواه أحمد من حديث عتبة بن ضمرة بن حبيب ، حدثني عبد الله بن قيس مولى

                          [ غطيف بن ] عفيف
                          أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - ، وعبد الله هذا ينظر في حاله ، وليس بالمشهور .

                          وبالجملة ، فلا حجة في الحديث على أنهم في النار ؛ لأنه إنما أخبر بأنهم " من آبائهم " في أحكام الدنيا ، كما تقدم .

                          [ ص: 1097 ] واحتجوا بما رواه عبد الله بن أحمد في " مسند " أبيه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، عن محمد بن فضيل بن غزوان ، عن محمد بن عثمان ، عن زاذان ، عن علي قال : سألت خديجة - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين لها ماتا في الجاهلية ، فقال : " هما في النار " ، فلما رأى الكراهية في وجهها قال : " لو رأيت مكانهما لأبغضتهما " ، قالت : يا رسول الله ، فولدي منك ! قال : " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار " ثم قرأ : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) .

                          [ ص: 1098 ] وهذا الحديث معلول من وجهين :

                          أحدهما : أن محمد بن عثمان هذا مجهول .

                          والثانية : أن زاذان لم يدرك عليا .

                          وقال الخلال : أخبرنا

                          [ حفص بن عمرو الربالي ] ، ثنا أبو زياد سهل بن زياد ، ثنا الأزرق بن قيس ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : يا رسول الله ، أين أطفالي من أزواجي من المشركين ؟ قال : " في النار " ، وقالت : بغير عمل ؟ قال : " قد علم الله ما كانوا عاملين " .

                          [ ص: 1099 ] [ ص: 1100 ] قال شيخنا : وهذا حديث موضوع ، لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي غر القاضي أبا يعلى حتى حكى عن أحمد " أنهم في النار " ؛ لأن أحمد نص في رواية بكر بن محمد ، عن أبيه : أنه سأله عن أولاد المشركين ، فقال : أذهب إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ، فتوهم القاضي أن أحمد أراد هذا الحديث ، وأحمد أعلم بالسنة من أن يحتج بمثل هذا الحديث ، وإنما أراد أحمد حديث عائشة ، وابن عباس ، وأبي هريرة - رضي الله عنهم - .

                          واحتجوا أيضا بحديث داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة بن قيس ، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : أتيت أنا وأخي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : إن أمنا ماتت في الجاهلية ، وكانت تقري الضيف ، وتصل الرحم ، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء ؟ قال : " لا " قلنا له : فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث ، فقال : الموءودة ، والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم " رواه جماعة كثيرة عن داود .

                          [ ص: 1101 ] وقال محمد بن نصر : ثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية

                          [ بن ] هشام
                          ، عن شيبان ، عن جابر ،

                          [ عن ] عامر ، عن علقمة بن قيس ، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلنا يا رسول الله ، إن أمنا كانت تصل الرحم ، وتقري الضيف ، وتطعم الطعام ، وإنها كانت وأدت في الجاهلية فماتت قبل الإسلام ، فهل ينفعها عمل إن عملنا عنها ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 1102 ] وسلم - : " لا ينفع الإسلام إلا من أدرك ، أمكم وما وأدت في النار " .

                          وروى أبو إسحاق عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الوائدة والموءودة في النار " وهذا لا يدل على أنهم [ ص: 1103 ] كلهم في النار ، بل يدل على أن بعض هذا الجنس في النار ، وهذا حق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

                          وقد رد بعضهم على الحديث بأنه مخالف لنص القرآن قال تعالى : ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) ، سواء كان المعنى أنها [ ص: 1104 ] تسأل سؤال توبيخ لمن وأدها ، أو تطلب ممن وأدها كما تطلب الأمانة ممن اؤتمن عليها .

                          وعلى التقديرين ، فقد أخبر سبحانه أنه لا ذنب لها تقتل به في الدنيا ، قتلة واحدة ، فكيف تقتل في النار قتلات دائمة ، ولا ذنب لها ؟ فالله أعدل ، وأرحم من ذلك ؛ لأنه إذا كان قد أنكر على من قتلها بلا ذنب ، فكيف يعذبها تبارك وتعالى بلا ذنب ؟ وهذا المعنى حق لا يعارض نص القرآن ، فإنه لم يخبر أن الموءودة في النار بلا ذنب ، فهذا لا يفعله الله قطعا ، وإنما يدخلها النار بحجته التي يقيمها يوم القيامة إذا ركب في الأطفال العقل ، وامتحنهم ، وأخرجت المحنة منهم ما يستحقون به النار .

                          واحتجوا بما روى البخاري في " صحيحه " في احتجاج الجنة ، والنار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وأما النار فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها " ، قالوا : فهؤلاء ينشئون للنار بغير عمل ، فلأن يدخلها من ولد في الدنيا بين كافرين أولى .

                          قال شيخنا : وهذه حجة باطلة ، فإن هذه اللفظة وقعت غلطا من بعض الرواة ، وبينها البخاري - رحمه الله تعالى - في الحديث الآخر الذي هو [ ص: 1105 ] الصواب ، فقال في " صحيحه " ثنا عبد الله بن محمد ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين ، والمتجبرين ، وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس ، وسقطهم ؟ ! قال الله - عز وجل - للجنة : " أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي " ، وقال للنار : " أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها " .

                          فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول : قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحدا .

                          وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا
                          " هذا هو الذي قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا ريب ، وهو الذي ذكره في " التفسير " .

                          وقال في باب ما جاء في قول الله عز وجل : ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) .

                          [ ص: 1106 ] ثنا

                          [ عبيد الله ] بن سعيد ، ثنا يعقوب ، ثنا أبي ، عن صالح بن كيسان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " اختصمت الجنة والنار إلى ربهما ، فقالت الجنة : يا رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم ؟ وقالت النار : ما لها لا يدخلها إلا المتجبرون ؟ فقال للجنة : " أنت رحمتي " ، وقال للنار : " أنت عذابي أصيب بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها " .

                          قال : فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا ، وإنه ينشئ للنار من يشاء ، فيلقون فيها ، فتقول : هل من مزيد ؟ ! ويلقون فيها ، وتقول : هل من مزيد ؟ ! ثلاثا ، حتى يضع قدمه فيها فتمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط . "

                          فهذا غير محفوظ ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعا كما انقلب على بعضهم : " إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " فجعلوه : " إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال " ، وله نظائر من الأحاديث المقلوبة من المتن .

                          [ ص: 1107 ] [ ص: 1108 ] وحديث الأعرج ، عن أبي هريرة هذا لم يحفظ كما ينبغي ، وسياقه يدل على أن راويه لم يقم متنه ، بخلاف حديث همام ، عن أبي هريرة .

                          واحتجوا بما في " الصحيح " من حديث الصعب بن جثامة أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ، ونسائهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هم منهم " ، وفي لفظ : " هم من آبائهم " ، فقال الزهري : ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن قتل النساء والولدان .

                          ولا حجة لهم في هذا فإنه إنما سئل عن أحكام الدنيا ، وبذلك أجاب ، والمعنى : أنهم إن أصيبوا في التبييت ، والغارة فلا قود ولا دية على من [ ص: 1109 ] أصابهم لكونهم أولاد من لا قود ولا دية لهم ، وعلى ذلك مخرج الحديث سؤالا وجوابا .

                          واحتجوا أيضا بقول الله تعالى : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) ، وهذا يدل على أن ذرية الكافرين تلحق بهم ولا يلحقون بالمؤمنين وذرياتهم ، فإن الله تعالى شرط في الإلحاق إيمان الآباء ، وهذا لا حجة فيه لأن الله تعالى إنما أخبر عن إلحاق ذرية المؤمنين بآبائهم ، ولم يخبر عن ذرية الكفار بشيء ، بل الآية حجة على نقيض ما ادعوه من وجهين :

                          أحدهما : إخباره أنه لم ينقص الآباء بهذا الإلحاق من أعمالهم شيئا ، فكيف يعذب هذه الذرية بلا ذنب ؟

                          الثاني : أنه سبحانه نبه على أن هذا الإلحاق مختص بأهل الإيمان ، وأما الكفار فلا يؤاخذون إلا بكسبهم ، فقال تعالى : ( كل امرئ بما كسب رهين ) .

                          واحتجوا أيضا بقوله تعالى إخبارا عن نوح أنه قال : ( ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) ، والفاجر والكفار من أهل النار ، وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه إنما أراد به كفار أهل زمانه قطعا ، وإلا فمن بعدهم من الكفار قد ولد بعضهم الأنبياء ، كما ولد آزر إبراهيم الخليل .

                          وأيضا فقوله : " فاجرا كفارا " حال مقدرة ، أي من إذا عاش كان [ ص: 1110 ] فاجرا كفارا ، ولم يرد به أن أطفالهم حال سقوطهم يكونون فجرة كفرة ، كما تقدم بيانه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية