الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ الاستثناء المتوسط ]

                                                      أما المتوسط فإن تخلل بين جملتين ، إحداهما معطوفة على الأخرى فقل من تعرض له ، وقد ذكره الأستاذان أبو إسحاق وأبو منصور نحو : أعط بني زيد إلا من عصاك وأعط بني عمرو . قالا : فاختلف فيه أصحابنا على وجهين : أحدهما : أنه يرجع إليهما . والثاني : أنه يرجع إلى ما قبله دون ما بعده . قالا : وسواء كان في الأمر أو الخبر . قال الأستاذ أبو منصور : فإن لم يكن لفظ [ الأمر ] أو الخبر مذكورا في الثانية رجع إليهما جميعا ، كقوله : أعط بني زيد إلا من عصاك وبني عمرو الثمن . وقال الأستاذ أبو إسحاق : فإن كان معطوفا عليه يصير الأمر والخبر كالمتقدم عليه . نحو أعط أو أعطيت بني زيد إلا من أطاعني منهم ، وبني عمرو ، فإنها صارت في حكم الجملة الأولى بالعطف على موضع الفائدة . [ ص: 427 ] وهاهنا تنبيهات :

                                                      الأول : أن قولنا يعود الاستثناء إلى الجميع هل معناه العود إلى كل واحد منها بمفردها أو العود إلى المجموع ويتوزع عليها ؟ فيه خلاف ، حكاه الماوردي في كتاب " الإقرار " فيما لو قال : له علي ألف درهم ومائة دينار إلا خمسين ، وأراد بالخمسين المستثناة جنسا غير الدراهم أو الدنانير قبل منه . وكذا إن أراد عوده إلى الجنسين معا أو إلى أحدهما ، فإن مات قبل البيان فعند أبي حنيفة يعود إلى ما يليه ، وعندنا يعود إلى المثالين المذكورين من الدراهم أو الدنانير ثم هو على وجهين : أحدهما : يعود إلى كل منهما جميع الاستثناء فيستثنى من ألف درهم خمسون ومن مائة دينار خمسون ، والثاني : يعود إليهما نصفين ، فيستثنى من الدراهم خمسة وعشرون ، ومن الدنانير خمسة وعشرون .

                                                      ولم يصحح الماوردي شيئا ، وذكرها الروياني في " البحر " وصحح الأول ، وقال في باب العتق : قال القاضي أبو حامد إذا قال : سالم وغانم وزياد أحرار - يعني وليس له مال سواهم - أقرع بينهم . وإن قال : أردت من حرية الأخير وحده قبل منه ، وأعتق من غير إقراع . وإن قال : أردت حرية الأول أو الثاني لا يقبل ، لأن الناس في الكناية عن الاستثناء على قولين ، ومنهم من يرده إلى الجميع ومنهم من يرده إلى الأول ، وهذا بخلاف القولين . انتهى .

                                                      وهذا يخرج منه خلاف آخر ، وهو أن العود إلى واحد إنما هو الأخير . قلت : ويظهر أثر الخلاف الذي حكاه الماوردي فيما إذ قلت : أكرم بني تميم وبني بكر ، أو أكرم بني تميم أو بني بكر إلا ثلاثة ، هل معناه إلا ثلاثة من كل طائفة أو مجموعهما ينبني على الخلاف . ويشبه أيضا تخريجه على [ ص: 428 ] الخلاف فيما إذا عطف بعض المستثنيات أو المستثنى منه على بعض ، هل يجمع بينهما حتى يكونا كالكلام الواحد ، أم لا ؟ فإن قلنا : إن الواو للجمع فالقياس جعل الاستثناء عائدا إلى المجموع ، ويقع فيما لو قال : أنت طالق ثنتين وواحدة إلا واحدة تقع ثنتان لأن الاستثناء يعود إلى جميع ما سبق ، وإن قلنا : لا يجمع فالاستثناء يرجع بجملته إلى كل واحدة ، وحينئذ فيقع ثنتان أيضا ، لأن الاستثناء يكون من واحدة وهو باطل لاستغراقه ، فوقعت الواحدة المعطوفة ، ويكون من ثنتين ، وهو صحيح فيقع منهما واحدة ، فحينئذ يقع طلقتان على التقديرين معا .

                                                      الثاني : أن الرافعي وجماعة من الأصحاب مثلوا المسألة في كتاب الوقف بما لو قال : وقفت على أولادي وأحفادي وإخوتي المحتاجين إلا أن يفسق بعضهم ، وهو من عطف المفردات لا الجمل ، إلا أن يقال : العامل في المعطوف فعل محذوف مقدر بعد حرف العطف . والمطابق تمثيل الإمام في " البرهان " بقوله : وقفت على بني فلان داري ، وحبست على أقاربي ضيعتي ، وسبلت على خدمتي بيتي إلا أن يفسق منهم فاسق .

                                                      الثالث : أن هذه المسألة قل من تعرض لها من النحويين ، وقد سبق أن ابن فارس ذكرها في كتاب " فقه العربية " واختار توقف الأمر على الدليل من خارج ، وذكرها المهاباذي في " شرح اللمع " واختار رجوعه إلى ما يليه كالحنفية ، قال : وحمله على أن يستثنى من جميع الكلام خطأ ظاهر ; لأنه لا يجوز أن يكون معمولا لعاملين مختلفين ، ويستحيل ذلك . انتهى .

                                                      وكذلك قال ابن عمرون في " شرح المفصل " في قولنا : لا حول ولا [ ص: 429 ] قوة إلا بالله ، الاستثناء من الثانية ولا يجوز أن يكون من الجملتين ، لأنه يلزم أن يكون معمولا لعاملين ، وحسنه هنا أن معنى الثانية قريب من معنى الأولى . فإذا استثني من أحدها فكأنه يستثنى منهما ، يجوز أن يكون الاستثناء من الجملة الواحدة سادا مسد الاستثناء من جملة مختلفة معانيها ، وإن ظنه بعض الفقهاء في قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } الآية ، وقاسوها على الشرط ، لأنه متى تعقب عاد إلى الكل .

                                                      والفرق ظاهر لأنه لا يلزم الشرط اجتماع عاملين على معمول واحد بخلاف الاستثناء والذي يقتضيه اللفظ أنه مستثنى من " لهم " ، وهو في موضع جر على البدل من الهاء والميم في " لهم " أو ينصب على أصل الاستثناء ، وهو أولى من جعله مستثنى من { أولئك هم الفاسقون } لأنه أكثر فائدة ، ولهذا قال عمر ( رضي الله عنه ) للمحدود في القذف : تب أقبل . لأنه يلزم من قبول الشهادة عدم الفسق ، بخلاف ما إذا استثني من الفاسقين ، فلا يلزم من عدم الفسق قبول الشهادة ، ولا يضمر الفصل لتعلقه به ، وليس بأجنبي ، لا يجوز أن يكون مستثنى من { فاجلدوهم } لأن حق الآدمي لا يسقط بالرجوع بعد التوبة . وهذا منهم بناء على أن العامل في المستثنى ما قبل إلا ; فإن قلنا : إن العامل " إلا " كما صححه ابن مالك وغيره ، لم يكن مستحيلا

                                                      والحاصل أن القائلين بعوده إلى الجميع ، إن قالوا بأن العامل " إلا " فلا كلام ، وإن قالوا : ما قبلها ، فعليه هذا الإشكال . وقال إلكيا الطبري : قد نقل عن أبي علي الفارسي مقدم أئمة النحو ومتبوعهم عود الاستثناء إلى [ ص: 430 ] الأخيرة ، كمذهب أبي حنيفة . وهذا بناه أبو علي على مذهبه أن العامل في الاستثناء - الفعل الذي قبل " إلا " ، وقد قام الدليل اللغوي والقياس النحوي على أن يجوز أن يعمل عاملان في معمول واحد ، وهذا مقطوع به في المعمول أيضا .

                                                      قال شيخنا أبو الحسن : لا يجوز أن يجتمع سوادان في محل واحد ، لأنهما لو اجتمعا لجاز أن يرتفع أحدهما بضده ، وإذا جاز ذلك عقلا فلو قدرنا رفع أحد السوادين ببياض لأدى إلى اجتماع السواد والبياض في محل واحد ، وذلك ممتنع عقلا ، فكذلك لا يجوز أن يعمل عاملان في معمول واحد ، لأنه يجوز أن يرتفع أحد العاملين بضده ، فيكون أحدهما مثلا يوجب الرفع ، والآخر يوجب النصب ، فيؤدي إلى أن يكون اللفظ الواحد مرفوعا ومنصوبا ، وذلك باطل

                                                      الرابع : أن الاستثناء في القرآن الكريم عقيب الجمل مختلف ، فمنه ما يعود إلى الكل كقوله تعالى في آل عمران : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم } إلى قوله : { إلا الذين تابوا } وفي المائدة { حرمت عليكم الميتة والدم } إلى قوله : { إلا ما ذكيتم } قيل : الاستثناء متصل ، وقيل منقطع ، يعود على المنخنقة وما بعدها . أي ما أدركتم ذكاته من المذكورات . وقوله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية فإن الإجماع قائم كما حكاه ابن السمعاني على أن قوله : { إلا الذين تابوا } عائد إلى الجميع .

                                                      ومنه ما يعود على جملة واحدة ، كقوله : { فأسر بأهلك بقطع من الليل } إلى قوله : { إلا امرأتك } قرئ بالنصب على الاستثناء من الجملة الأولى ، لأنها موجبة ، وبالرفع [ ص: 431 ] على الاستثناء من الثانية لأنها منفية . وقد تكون خرجت معهم ، ثم رجعت ، فهلكت . قاله المفسرون

                                                      ومنه ما يتضمن عوده إلى الأخيرة فقط ، كقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } ، فهذا راجع إلى أقرب مذكور ، وهو الدية لا الكفارة .

                                                      وجعل منه بعضهم آية القذف ، فإن الله تعالى ذكر ثلاث جمل ، وعقبها بالاستثناء ، فلا يمكن عوده إلى الأولى بالاتفاق ; أما عند أبي حنيفة فلبعده عن آخر مذكور ، وأما عندنا فلخروجه بدليل ، وهو أنه حق آدمي ، فلا يسقط بالتوبة ولا إلى الثانية لتقيدها بالتأبيد . وبه يقوم مذهب الحنفية على اختصاصه بالأخيرة . وقال الروياني في البحر : بل راجع إلى الشهادة فقط لأن التفسيق

                                                      خرج مخرج الخبر ، والتعليل لرد الشهادة ، ورد الشهادة هو الحكم المذكور ، فالاستثناء به أولى .

                                                      ومنه ما يتعين عوده إلى الأول كقوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين } إلى قوله : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } فهو عائد إلى النهي الأول دون الخبر الثاني : وقوله : { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } ، فهذا مختص بالأول ، ولا يجوز عوده إلى الأخير ، وإلا يلزم أن يكون من اغترف غرفة ليس منه ، [ ص: 432 ] وليس المعنى عليه ، فإن المقصود من لم يطعم مطلقا ، ومن اغترف منه غرفة على حد سواء .

                                                      ونظيره قوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك } فإنه عائد إلى الأول ، ولا يجوز عوده إلى الأخيرة ، وإلا يلزم أن يكون قد استثنى " الإماء " من أزواج . وكقوله عليه السلام : { ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر } فإنه عائد إلى الأول فقط .

                                                      وقال المفسرون في قوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } أنه استثناء من قوله : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } فهذا موضع الاستثناء بقوله إلا قليلا ، وكقوله : { إلا من خطف الخطفة } بعد الجمل المذكورة ، وهو الأول .

                                                      وجعل ابن جني في " الخاطريات " منه قوله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا } فيكون استثناء من الضمير المرفوع في يفعلون ، ولو كان ما يدعون أنهم يفعلون لا يفعله إلا الذين آمنوا لكان مدحا لهم وثناء عليهم ، وهذا ضد المعنى هنا . فإن قيل : هلا كان الكلام محمولا على المعنى ؟ أي أنهم يكذبون إلا الذين آمنوا . قيل : فيه شيئان : أحدهما : أنه ترك للظاهر . الثاني : أن المقصود ذم الشعراء على [ ص: 433 ] الإطلاق صدقوا أم كذبوا ، فالمراد أن الشعراء هذه حالتهم إلا الذين آمنوا . قال : وحينئذ ففيه جواز الاستثناء من الأول الأبعد دون الآخر الأقرب ، وهو حجة للشافعي . وهو في الظاهر إلى الآن على أصحابنا انتهى .

                                                      ومنه ما يلتبس كقوله تعالى { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } إلى قوله : { إلا من تاب وآمن } فقد يتخيل أنه من الجمل ، وإنما هو من لفظ " من " وهو مفرد .

                                                      الخامس أنهم أطلقوا النقل عن الحنفية ، والموجود في كتبهم تخصيص هذا الاستثناء " بإلا " فأما الاستثناء بالمشيئة نحو إن شاء الله ، فلا خلاف عندهم في عوده إلى الجميع . ذكر ذلك أبو علي البخاري في كتاب " معاني الأدوات " ، فقال : الاستثناء بلفظ المشيئة يسمى التعطيل ، لأنه لا يبقى بعد الاستثناء شيء ، والاستثناء بإلا يسمى التحصيل ، لأنه يبقى بعده شيء ، وكذا وقع في كلام القاضي ، والإمام فخر الدين ، والآمدي وأتباعهم أن الاستثناء بالمشيئة محل وفاق بيننا وبين الحنفية .

                                                      وفي " البرهان " لإمام الحرمين : وادعى بعض أصحاب الشافعي أن بعض أصحاب أبي حنيفة يقولون : إن الرجل إذا قال : نسوتي طوالق ، وعبيدي أحرار ، ودوري محبسة إن شاء الله ، فهذا استثناء راجع إلى ما تقدم ، وما أراهم يسلمون ذلك إن عقلوا ، فإن سلموه فطالب القطع لا يغني فيها التعلق بهفوات الخصوم ومناقضاتهم . فليبعد طالب التحقيق عن مثل هذا . انتهى . [ ص: 434 ] فائدة

                                                      اختلف في " إن شاء الله " هل هو استثناء ؟ فظاهر كلام طائفة دخوله في الاستثناء ، ومنهم من منعه ، واحتج بأنه لو قال : أنت طالق ثلاثا إن شاء الله ، لم يقع خلافا لمالك . ولو قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ، وقع الثلاث ، فدل على أنه ليس باستثناء .

                                                      وقال الروياني في " البحر " : اختلف أصحابنا في قوله : " إن شاء الله " هل هو استثناء يمنع من انعقاد اليمين ، أو يكون شرطا يعلق به ، فلم يثبت حكمه لعدمه ؟ على وجهين ، وظاهر المذهب أنه استثناء . قلت : وبه جزم الرافعي في كتاب الطلاق ، ثم قال : وقال الإمام : لا يبعد عن اللغة تسمية كل تعليق استثناء . وإذا قلنا بأنه استثناء ، فهل هو حقيقة أو مجاز ؟ صرح الإمام بالثاني فقال : سماه أئمتنا استثناء تجوزا ، لأنه ثنى بموجب اللفظ عن الوقوع ، كقوله : طالق ثلاثا إلا اثنتين ، فإنه ثنى اللفظ عن إيقاع الثلاث ، لكن سماه النبي عليه السلام استثناء في قوله : { من أعتق أو طلق ، ثم استثنى فله ثنياه } ، وهو عام في قوله : " إن شاء الله " وغيره .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية