الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (271) قوله تعالى: فنعما هي : الفاء جواب الشرط، و "نعم" فعل ماض للمدح نقيض بئس، وحكمها في عدم التصرف والفاعل واللغات حكم بئس كما تقدم فلا حاجة إلى الإطالة بتكرره.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي هنا وفي النساء: "فنعما" بفتح النون وكسر العين، وهذه على الأصل، لأن الأصل على "فعل" كعلم وقرأ [ ص: 609 ] ابن كثير وورش وحفص بكسر النون والعين، وإنما كسر النون إتباعا لكسرة العين وهي لغة هذيل. قيل: وتحتمل قراءة كسر العين أن يكون أصل العين السكون، فلما وقعت بعدها "ما" وأدغم ميم "نعم" فيها كسرت العين لالتقاء الساكنين. وهو محتمل. وقرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين. وروي عنهم الإسكان أيضا، واختاره أبو عبيد، وحكاه لغة للنبي صلى الله عليه وسلم في نحو قوله: "نعما المال الصالح مع الرجل الصالح".

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على اختيار الاختلاس على الإسكان، بل بعضهم يجعله من وهم الرواة عن أبي عمرو، وممن أنكره المبرد والزجاج والفارسي قالوا: لأن فيه جمعا بين ساكنين على غير حدهما. قال المبرد: "لا يقدر أحد أن ينطق به، وإنما يروم الجمع بين ساكنين فيحرك ولا يشعر" وقال الفارسي: "لعل أبا عمرو أخفى فظنه الراوي سكونا".

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم الكلام على "ما" اللاحقة لنعم وبئس. و "هي" مبتدأ ضمير عائد على الصدقات على حذف مضاف، أي: فنعم إبداؤها، ويجوز أن لا يقدر مضاف، بل يعود الضمير على "الصدقات" بقيد صفة الإبداء تقديره: فنعما هي أي: الصدقات المبداة. وجملة المدح خبر عن "هي"، والرابط العموم، وهذا أولى الوجوه، وقد تقدم تحقيقها.

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "وإن تخفوها" يعود على الصدقات. فقيل: يعود عليها لفظا ومعنى. وقيل: يعود على الصدقات لفظا لا معنى، لأن المراد بالصدقات [ ص: 610 ] المبداة الواجبة، وبالمخفاة: المتطوع بها، فيكون من باب "عندي درهم ونصفه"، أي: ونصف درهم آخر، وكقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1080 - كأن ثياب راكبه بريح خريق وهي ساكنة الهبوب

                                                                                                                                                                                                                                      أي: وريح أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      والفاء في قوله: "فهو" جواب الشرط، والضمير يعود على المصدر المفهوم من "تخفوها" أي: فالإخفاء، كقوله: "اعدلوا هو أقرب" و"لكم" صفة لخير، فيتعلق بمحذوف. و"خير" يجوز أن يكون للتفضيل، فالمفضل عليه محذوف أي: خير من إبدائها، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيرية أي: خير لكم من الخيور.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله: "إن تبدوا، وإن تخفوها" نوع من البديع وهو الطباق اللفظي. وفي قوله "وتؤتوها الفقراء" طباق معنوي، لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الأغنياء الصدقات، وإن يخف الأغنياء الصدقات، ويؤتوها الفقراء، فقابل الإبداء بالإخفاء [لفظا]، والأغنياء بالفقراء معنى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ويكفر" قرأ الجمهور "ويكفر" بالواو، والأعمش بإسقاطها والياء وجزم الراء. وفيها تخريجان، أحدهما: أنه بدل من موضع قوله: "فهو خير لكم" لأنه جواب الشرط كأن التقدير: وإن تخفوها يكن خيرا لكم [ ص: 611 ] ويكفر. والثاني: أنه حذف حرف العطف فتكون كالقراءة المشهورة، والتقدير: "ويكفر" وهذا ضعيف جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالنون ورفع الراء، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون وجزم الراء، وابن عامر وحفص عن عاصم: بالياء ورفع الراء، والحسن بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش أيضا بالياء ونصب الراء، وابن عباس: "وتكفر" بتاء التأنيث وجزم الراء، وعكرمة كذلك إلا أنه فتح الفاء على ما لم يسم فاعله، وابن هرمز بالتاء ورفع الراء، وشهر بن حوشب - ورويت عن عكرمة أيضا - بالتاء ونصب الراء، وعن الأعمش أيضا بالنون ونصب الراء، وعن الأعمش أيضا بالنون ونصب الراء، فهذه إحدى عشرة قراءة، والمشهور منها ثلاث.

                                                                                                                                                                                                                                      فمن قرأ بالياء ففيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه أضمر في الفعل ضمير الله تعالى، لأنه هو المكفر حقيقة، وتعضده قراءة النون فإنها متعينة له. والثاني: أنه يعود على الصرف المدلول عليه بقوة الكلام، أي: ويكفر صرف الصدقات. والثالث: أنه يعود على الإخفاء المفهوم من قوله: "وإن تخفوها"، ونسب التكفير للصرف والإخفاء مجازا، لأنهما سبب للتكفير، وكما يجوز إسناد الفعل إلى فاعله يجوز إسناده إلى سببه.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ بالتاء ففي الفعل ضمير الصدقات ونسب التكفير إليها مجازا كما تقدم. ومن بناه للمفعول فالفاعل هو الله تعالى أو ما تقدم. ومن قرأ بالنون فهي نون المتكلم المعظم نفسه. ومن جزم الراء فللعطف على محل الجملة الواقعة جوابا للشرط، ونظيره قوله: "من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم" في قراءة من جزم "ويذرهم".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 612 ] ومن رفع فعلى ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مستأنفا لا موضع له من الإعراب، وتكون الواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام آخر. والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، وذلك المبتدأ: إما ضمير الله تعالى أو الإخفاء أي: وهو يكفر فيمن قرأ بالياء أو ونحن نكفر فيمن قرأ بالنون أو وهي تكفر فيمن قرأ بتاء التأنيث. والثالث: أنه عطف على محل ما بعد الفاء، إذ لو وقع مضارع بعدها لكان مرفوعا كقوله: "ومن عاد فينتقم الله منه" ونظيره "ويذرهم في طغيانهم" في قراءة من رفع.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن نصب فعلى إضمار "أن" عطفا على مصدر متوهم مأخوذ من قوله: "فهو خير لكم"، والتقدير: وإن تخفوها يكن أو يوجد خير وتكفير. ونظيرها قراءة من نصب: "فيغفر" بعد قوله: "يحاسبكم به الله"، إلا أن تقدير المصدر في قوله: "يحاسبكم" أسهل منه هنا، لأن ثمة فعلا مصرحا به وهو "يحاسبكم"، والتقدير: يقع محاسبة فغفران، بخلاف هنا، إذ لا فعل ملفوظ به، وإنما تصيدنا المصدر من مجموع قوله: "فهو خير لكم".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: "ومعناه: وإن تخفوها يكن خيرا لكم وأن يكفر" قال الشيخ: "وظاهر كلامه هذا أن تقديره "وأن يكفر" يكون مقدرا بمصدر، ويكون معطوفا على "خيرا" الذي هو خبر "يكن" التي قدرها، كأنه قال: يكن الإخفاء خيرا لكم وتكفيرا، فيكون "أن يكفر" في موضع نصب، والذي تقرر [ ص: 613 ] عند البصريين أن هذا المصدر المنسبك من "أن" المضمرة مع الفعل المنصوب بها هو مرفوع معطوف على مصدر متوهم مرفوع، تقدره من المعنى. فإذا قلت: "ما تأتينا فتحدثنا" فالتقدير: ما يكون منك إتيان فحديث، وكذلك: "إن تجئ وتحسن إلي أحسن إليك" التقدير: إن يكن منك مجيء وإحسان أحسن إليك، فعلى هذا يكون التقدير: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فيكون زيادة خير للإخفاء على خير الإبداء وتكفير". انتهى ولم أدر ما حمل الشيخ على العدول عن تقدير أبي القاسم إلى تقديره وتطويل الكلام في ذلك مع ظهور ما بين التقديرين؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقال المهدوي: "هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام". وقال ابن عطية: "الجزم في الراء أفصح هذه القراءات لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء، وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى" قال الشيخ: "ونقول إن الرفع أبلغ وأعم، لأن الجزم يكون على أنه معطوف على جواب الشرط الثاني، والرفع يدل على أن التكفير مترتب من جهة المعنى على بذل الصدقات أبديت أو أخفيت، لأنا نعلم أن هذا التكفير متعلق بما قبله، ولا يختص التكفير بالإخفاء فقط، والجزم يخصصه به، ولا يمكن أن يقال إن الذي يبدي الصدقات لا يكفر من سيئاته، فقد صار التكفير شاملا للنوعين من إبداء الصدقات وإخفائها وإن كان الإخفاء خيرا".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من سيئاتكم" في "من" ثلاثة أقوال، أحدها: أنها للتبعيض، [ ص: 614 ] أي: بعض سيئاتكم، لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات، وعلى هذا فالمفعول في الحقيقة محذوف، أي: شيئا من سيئاتكم، كذا قدره أبو البقاء. والثاني: أنها زائدة وهو جار على مذهب الأخفش وحكاه ابن عطية عن الطبري عن جماعة، وجعله خطأ، يعني من حيث المعنى. ولثالث: أنها للسببية، أي: من أجل ذنوبكم، وهذا ضعيف. والسيئات جمع سيئة، ووزنها فيعلة وعينها واو، والأصل: سيوءة ففعل بها ما فعل بميت، وقد تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية