الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (279) قوله تعالى: فأذنوا : قرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم: "فآذنوا" بألف بعد الهمزة، والباقون بدون ألف، ساكن الهمزة. [ ص: 640 ] فالأولى من آذنه بكذا أي: أعلمه كقوله: "فقل آذنتكم على سواء" والمعنى: أعلموا غيركم. أمر المخاطبون بترك الربا أن يعلموا غيرهم ممن هو على حالهم في المقام بالربا بمحاربة الله ورسوله، فالمفعول هنا محذوف، وقد صرح به الشاعر في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1114 - آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله تعالى: "آذنتكم". وقيل: الهمزة في "فأذنوا" للصيرورة لا للتعدية، والمعنى: صيروا عالمين بالحرب، قاله أبو البقاء، وفيه بعد كبير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقراءة الباقين أمر من: أذن يأذن أي علم يعلم أي: فاعلموا يقال: أذن به فهو أذين، أي: علم به فهو عليم.

                                                                                                                                                                                                                                      ورجح جماعة قراءة حمزة. قال مكي: "لولا أن الجماعة على القصر لكان الاختيار المد. ووجه ذلك أن آذن بالمد أعم من أذن بالقصر، لأنهم إذا أعلموا غيرهم فقد علموا هم ضرورة، من غير عكس، أو يعلمون هم بأنفسهم ولا يعلم غيرهم". قال: "وبالقصر قرأ علي بن أبي طالب وجماعة".

                                                                                                                                                                                                                                      وعكس أبو حاتم فرجح قراءة القصر، واستبعد قراءة المد. قال: "إذ الأمر فيه بالحرب لغيرهم والمراد هم; لأنهم المخاطبون بترك الربا" وهذا الذي قاله غير لازم; لأنك إذا كنت على حالة فقلت لك يا فلان: "أعلم فلانا أنه [ ص: 641 ] مرتكب قبيحا" وهو شيء مماثل لما أنت عليه علمت قطعا أنك مأمور به أيضا، بل هو أبلغ من أمري لك مواجهة. وكذلك قال ثعلب، قال: "الاختيار قراءة العامة من الإذن لأنه يفسر كونوا على إذن وعلم، ولأن الكلام يجري به على وجه واحد وهو أدل على المراد، وأقرب في الأفهام". وقال أبو عبيدة: "يقال: أذنته بالشيء فأذن به"، أي: علم، مثل: أنذرته بالشيء فنذر به، فجعله مطاوعا لأفعل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو علي: "وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة، ففي إعلامهم علمهم، ليس في علمهم إعلامهم غيرهم" فقراءة المد أرجح لأنها أبلغ وآكد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الطبري: "قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: "وقرئ فآذنوا: فأعلموا بها غيركم، وهو من الإذن وهو الإسماع، لأنه من طرق العلم. وقرأ الحسن: "فأيقنوا" وهو دليل لقراءة العامة" يعني بالقصر، لأنها نص في العلم لا في الإعلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: "والقراءتان عندي سواء، لأن المخاطب محصور، لأنه كل من لا يذر ما بقي من الربا. فإن قيل: "فأذنوا" فقد عمهم الأمر، وإن قيل "فآذنوا" بالمد فالمعنى: أعلموا أنفسكم أو بعضكم بعضا، وكأن هذه [ ص: 642 ] القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء والتثبت أي: فأعلموا نفوسكم هذا، ثم انظروا في الأرجح لكم: ترك الربا أو الحرب".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بحرب" الباء في قراءة القصر قال الشيخ: "للإلصاق، تقول أذن بكذا أي: علم كذا، ولذلك قال ابن عباس وغيره: المعنى: فاستيقنوا بحرب من الله" قلت: قد قررت أن فعل العلم وإن كان في الأصل متعديا بنفسه فإنما يعدى بالباء لما تضمن من معنى الإحاطة فكذلك هذا، ويظهر من كلام ابن عطية أن هذه الباء ظرفية فإنه قال: "هي عندي من الإذن، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه، فكأنه قيل لهم: قرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله"فقوله: "وإذا أذن المرء في شيء" يقتضي تقديره: "فأذنوا في حرب، ولا يتأتى هذا إلا على قراءة القصر، وأما الباء مع قراءة المد فهي معدية للإعلام بالطريق الذي قدرته.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من الله" متعلق بمحذوف لأنه صفة للنكرة قبله. و "من" فيها وجهان، أظهرهما: أنها لابتداء الغاية مجازا، وفيه تهويل وتعظيم للحرب حيث هو وارد من جهة الله تعالى. والثاني: أنها تبعيضية أي: من حروب الله فهو على حذف مضاف. قال الزمخشري: "فإن قلت: هلا قيل بحرب الله ورسوله قلت: هذا أبلغ; لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله. انتهى. وإنما كان أبلغ لأنه لو أضيف لاحتمل إضافة المصدر إلى فاعله وهو المقصود، ولاحتمل الإضافة إلى مفعوله بمعنى أنكم تحاربون الله ورسوله، والمعنى الأول أبلغ، فلذلك ترك ما هو محتمل إلى ما هو نص في المراد.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 643 ] قوله: "ولا تظلمون" فيها وجهان، أظهرهما: أنها لا محل لها لاستئنافها، أخبرهم تعالى بذلك أي: لا تظلمون غيركم بأخذكم الزيادة منه، ولا تظلمون أنتم أيضا بضياع رؤوس أموالكم. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمير في "لكم" والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار لوقوعه خبرا في رأي الأخفش.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور الأول مبنيا للفاعل والثاني مبنيا للمفعول. وروى أبان والمفضل عن عاصم بالعكس. ورجح الفارسي قراءة العامة بأنها تناسب قوله: "وإن تبتم" في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فتظلمون مبنيا للفاعل أشكل بما قبله. وقال أبو البقاء: "يقرأ بتسمية الفاعل في الأول وترك التسمية في الثاني. ووجهه أن منعهم من الظلم أهم فبدئ به، ويقرأ بالعكس، والوجه فيه أنه قدم ما تطمئن به نفوسهم من نفي الظلم عنهم، ثم منعهم من الظلم، ويجوز أن تكون القراءتان بمعنى واحد لأن الواو لا ترتب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية