الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 507 ] تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      من قال : لا زكاة في الرمان ، وهم جمهور العلماء ، ومن قال : لا زكاة في الزيتون ، يلزم على قول كل منهم أن تكون الآية التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده ، منسوخة أو مرادا بها غير الزكاة ; لأنها على تقدير أنها محكمة ، وأنها في الزكاة المفروضة ، لا يمكن معها القول بعدم زكاة الزيتون والرمان ; لأنها على ذلك صريحة فيها ; لأن المذكورات في قوله تعالى : والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ، يرجع إلى كلها الضمير في قوله : كلوا من ثمره [ 6 \ 141 ] ، وقوله : وآتوا حقه يوم حصاده ، كما هو واضح لا لبس فيه . فيدخل فيه الزيتون والرمان دخولا أوليا لا شك فيه ، فقول أكثر أهل العلم بعدم الزكاة في الرمان يقوي القول بنسخ الآية ، أو أنها في غير الزكاة المفروضة ، والله تعالى أعلم ، وعنأبي يوسف : أنه أوجب الزكاة في الحناء ، واعلم أن مذهب داود بن علي الظاهري في هذه المسألة قوي جدا من جهة النظر ; لأنه قال : ما أنبتته الأرض ضربان : موسق ، وغير موسق ، فما كان موسقا وجبت الزكاة فيما بلغ منه خمسة أوسق ; لقوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا زكاة فيما دونها منه " ، وما كان غير موسق ففي قليله وكثيره الزكاة ; لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " ، ولا يخصص بحديث : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ; لأنه غير موسق أصلا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه : وهذا القول هو أسعد الأقوال بظاهر النصوص وفيه نوع من الجمع بينها ، إلا أنه يرد عليه ما قدمنا من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض للخضراوات مع كثرتها في المدينة ، ولا الفواكه مع كثرتها بالطائف ، ولو كان العموم شاملا لذلك لبينه - صلى الله عليه وسلم - وإذا عرفت كلام العلماء في تعيين ما تجب فيه الزكاة ، وأدلة أقوالهم مما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      فاعلم أن جمهور العلماء قالوا : لا تجب الزكاة إلا في خمسة أوسق فصاعدا ; لقوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " الحديث . أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ومسلم من حديث جابر - رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله - وأصحابهم ، وهو قول ابن عمر ، وجابر ، وأبي أمامة بن سهل ، وعمر بن عبد العزيز ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وعطاء ، ومكحول ، والحكم ، والنخعي ، وأهل المدينة ، والثوري والأوزاعي ، وابن أبي [ ص: 508 ] ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وسائر أهل العلم ، كما نقله عنهم ابن قدامة وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن قدامة في " المغني " : لا نعلم أحدا خالف فيه إلا أبا حنيفة ، ومن تابعه ، ومجاهدا ، وقد أجمع جميع العلماء على أن الوسق ستون صاعا ، وهو بفتح الواو وكسرها والفتح أشهر وأفصح ، وقيل : هو بالكسر اسم وبالفتح مصدر ، ويجمع على أوسق في القلة وأوساق ، وعلى وسوق في الكثرة . واعلم أن الصاع أربعة أمداد بمده - صلى الله عليه وسلم - والمد بالتقريب : ملء اليدين المتوسطتين ، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين ، وتحديده بالضبط وزن رطل وثلث بالبغدادي ، فمبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد ، ومن الصيعان ثلاثمائة ، وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل ، والرطل : وزن مائة وثمانية وعشرين درهما مكيا ، وزاد بعض أهل العلم أربعة أسباع درهم ، كل درهم وزن خمسين وخمسي حبة من مطلق الشعير ، كما حرره علماء المالكية ، ومالك - رحمه الله - من أدرى الناس بحقيقة المد والصاع كما هو معلوم ، وقيل فيه غير ما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الحكم الثالث من أحكام هذه المسألة الثالثة المذكورة في أول هذا المبحث ، وهو تعيين القدر الواجب إخراجه ، فلا خلاف فيه بين العلماء وهو العشر فيما ليس في سقيه مشقة ، كالذي يسقيه المطر ، أو النهر ، أو عروقه في الأرض ، وأما ما يسقى بالآلة كالذي يسقى بالنواضح ففيه نصف العشر ، وهذا ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر ، وابن عمر ، فإن سقى تارة بمطر السماء مثلا ، وتارة بالسانية فإن استويا فثلاثة أرباع العشر ، بلا خلاف بين العلماء ، وإن كان أحد الأمرين أغلب فقيل : يغلب الأكثر ويكون الأقل تبعا له ، وبه قال أحمد ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وعطاء ، وهو أحد قولي الشافعي ، وقيل : يؤخذ بالتقسيط ، وهذان القولان كل منهما شهره بعض المالكية ، وحكى بعضهم رواية عن مالك : أن المعتبر ما حيي به الزرع وتم ، وممن قال بالتقسيط من الحنابلة : ابن حامد ، فإن جهل المقدار وجب العشر احتياطا ، كما نص عليه الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - في رواية عبد الله ، قاله في " المغني " ; وعلله بأن الأصل وجوب العشر وإنما يسقط نصفه بتحقق الكلفة ، وإذا لم يتحقق المسقط وجب البقاء على الأصل وهو ظاهر جدا . وإن اختلف الساعي ورب المال في أيهما سقى به أكثر ؟ فالقول قول رب المال بغير يمين ; لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم ، ولا وقص في الحبوب والثمار ، بل كل ما زاد على النصاب أخرج منه بحسبه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية