الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة السادسة : أن قوله : الحمد لله كما دل على أنه لا محمود إلا الله ، فكذلك العقل دل عليه ، وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى لو لم يخلق داعية الإنعام في قلب المنعم لم ينعم ، فيكون المنعم في الحقيقة هو الله الذي خلق تلك الداعية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن كل من أنعم على الغير فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضا ؛ إما ثوابا ، أو ثناء ، أو توصيل حق ، أو تخليصا للنفس من خلق البخل ، وطالب العوض لا يكون منعما ، فلا يكون مستحقا للحمد في الحقيقة ، أما الله سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته ، والكامل لذاته لا يطلب الكمال ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، فكانت عطاياه جودا محضا وإحسانا محضا ، فلا جرم كان مستحقا للحمد ، فثبت [ ص: 181 ] أنه لا يستحق الحمد إلا الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن كل نعمة فهي من الموجودات الممكنة الوجود ، وكل ممكن الوجود فإنه وجد بإيجاد الحق إما ابتداء وإما بواسطة ، ينتج أن كل نعمة فهي من الله تعالى ، ويؤكد ذلك بقوله تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) [ النحل : 53 ] والحمد لا معنى له إلا الثناء على الإنعام ، فلما كان لا إنعام إلا من الله تعالى وجب القطع بأن أحدا لا يستحق الحمد إلا الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : النعمة لا تكون كاملة إلا عند اجتماع أمور ثلاثة :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن تكون منفعة ، والانتفاع بالشيء مشروط بكونه حيا مدركا ، وكونه حيا مدركا لا يحصل إلا بإيجاد الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت خالية عن شوائب الضرر والغم ، وإخلاء المنافع عن شوائب الضرر لا يحصل إلا من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت آمنة من خوف الانقطاع ، وهذا الأمر لا يحصل إلا من الله تعالى ، إذا ثبت هذا فالنعمة الكاملة لا تحصل إلا من الله تعالى ، فوجب أن لا يستحق الحمد الكامل إلا الله تعالى ، فثبت بهذه البراهين صحة قوله تعالى : ( الحمد لله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة السابعة : قد عرفت أن الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه منعما متفضلا ، وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر ، إذا عرفت هذا فنقول : وجب كون الإنسان عاجزا عن حمد الله وشكره ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن نعم الله على الإنسان كثيرة لا يقوى عقل الإنسان على الوقوف عليها ، كما قال تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] وإذا امتنع وقوف الإنسان عليها امتنع اقتداره على الحمد والشكر والثناء اللائق بها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الإنسان إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله تعالى على ذلك الحمد والشكر ، وإذا خلق في قلبه داعية إلى فعل ذلك الحمد والشكر ، وإذا زال عنه العوائق والحوائل ، فكل ذلك إنعام من الله تعالى ، فعلى هذا لا يمكنه القيام بشكر الله تعالى إلا بواسطة نعم عظيمة من الله تعالى عليه ، وتلك النعم أيضا توجب الشكر ، وعلى هذا التقدير : فالعبد لا يمكنه الإتيان بالشكر والحمد إلا عند الإتيان به مرارا لا نهاية لها ، وذلك محال ، والموقوف على المحال محال ، فكان الإنسان يمتنع منه الإتيان بحمد الله وبشكره على ما يليق به ، الثالث : أن الحمد والشكر ليس معناه مجرد قول القائل بلسانه : الحمد لله ؛ بل معناه علم المنعم عليه بكون المنعم موصوفا بصفات الكمال والجلال ، وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال فكمال الله وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور ، وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان آتيا بحمد الله وشكره وبالثناء عليه . الرابع : أن الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل الإنعام الصادر من المنعم بشكر نفسه وبحمد نفسه وذلك بعيد لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن نعم الله كثيرة لا حد لها ، فمقابلتها بهذا الاعتقاد الواحد وبهذه اللفظة الواحدة في غاية البعد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن من اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم الله تعالى فقد أشرك ، وهذا معنى قول الواسطي الشكر شرك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الإنسان محتاج إلى إنعام الله في ذاته وفي صفاته وفي أحواله ، والله تعالى غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين ، فكيف يمكن مقابلة نعم الله بهذا الشكر وبهذا الحمد ، فثبت بهذه الوجوه أن العبد عاجز عن الإتيان بحمد الله وبشكره ، فلهذه الدقيقة لم يقل احمدوا الله ، بل قال : الحمد لله ؛ لأنه لو قال احمدوا الله فقد كلفهم ما لا طاقة لهم به ، أما لما قال : الحمد لله كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه ، سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا [ ص: 182 ] عليه ؛ ونقل أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي ، وهو أن توفقني لذلك الشكر ؟ فقال : يا داود ، لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثامنة : عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : إذا أنعم الله على عبده نعمة فيقول العبد : الحمد لله ، فيقول الله تعالى : انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له ، وتفسيره أن الله إذا أنعم على العبد كان ذلك الإنعام أحد الأشياء المعتادة مثل أنه كان جائعا فأطعمه ، أو كان عطشانا فأرواه ، أو كان عريانا فكساه ، أما إذا قال العبد : الحمد لله كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو لله ، وكل حمد لم يأت به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو لله ، وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وساكنو أطباق السماوات ، وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم ، وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء ، وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] ثم جميع هذه المحامد متناهية ، وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين ، فكل هذه الأقسام التي لا نهاية لها داخلة تحت قول العبد : ( الحمد لله رب العالمين ) فلهذا السبب قال تعالى : انظروا إلى عبدي قد أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها ، فأعطاني من الشكر ما لا حد له ولا نهاية له .

                                                                                                                                                                                                                                            أقول : هاهنا دقيقة أخرى ، وهي أن نعم الله تعالى على العبد في الدنيا متناهية ، وقوله : الحمد لله حمد غير متناه ، ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناه ، فكأنه تعالى يقول : عبدي ، إذا قلت : الحمد لله في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية ، فلا بد من مقابلتها بنعمة غير متناهية ؛ فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي ، فثبت أن قول العبد لله يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية