الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني عشر: الشرط الثاني عشر: أن يكون الموقوف مفرزا

        (وقف المشاع)

        وفيه مسائل: المسألة الأولى: وقف أحد الشركاء نصيبه من المشاع:

        وصورتها : أن يكون هناك أرض مشتركة بين اثنين مثلا، فيقف أحدهما نصيبه على أولاده، أو على الفقراء.

        ومثله: أن يقف جزءا مشاعا من ملكه.

        وقد اختلف في حكم هذا الوقف على قولين:

        القول الأول: صحة هذا الوقف.

        وبه قال أبو يوسف من الحنفية، وبعض المالكية، والشافعية، [ ص: 618 ] والحنابلة، وابن حزم.

        وجاء في رمز الحقائق شرح كنز الدقائق: « ولا يتم الوقف حتى يقبض المتولي، وهو قول محمد.. ولا يتم أيضا حتى يفرز، وهو قول محمد أيضا احترز به عن المشاع فإنه لا يجوز وقفه، وعند أبي يوسف يجوز.. وأما ما لا يحتم القسمة كالحمام ونحوه، فلا يضره الشيوع ».

        وجاء في حاشية العدوي على شرح أبي الحسن: « ويصح وقف المشاع إن كان مما يقبل القسمة...وإن كان لا يقبل القسمة، فهل يصح أم لا؟ قولان مرجحان... » وجاء في الإنصاف قوله : (وصح وقف المشاع) هذا المذهب نص عليه، وعليه الأصحاب قاطبة ».

        وجاء في البيان: « ويصح وقف المشاع ».

        القول الثاني : أن وقف المشاع لا يصح إن كان مما لا يقبل القسمة .

        وهو قول المالكية.

        القول الثالث: أن وقف المشاع المقارن وقت الوقف، ووقت القبض [ ص: 619 ] لا يصح إن كان مما يقبل القسمة، ويصح إن كان مما لا يقبلها، وإن كان الشيوع طارئا، أو وقت الوقف فقط صح الوقف.

        وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية ، وتبعه طائفة منهم.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (صحة وقف المشاع) :

        استدل أصحاب هذا القول بالأدلة الآتية:

        1 - قوله تعالى: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون وجه الاستدلال: أن الله سبحانه أوجب نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول إلا أن يوجد الحط من الزوجات عن النصف، ويقتضي أن لها نصفه مشاعا، وهذا في الإسقاط، فكذا الوقف بجامع التبرع.

        ونوقش بأن الآية لا حجة فيها؛ لأن المراد من الفرض الدين لا العين، ألا ترى أنه قال: إلا أن يعفون ، والعفو إسقاط، وإسقاط الأعيان لا يعقل.

        ويجاب عن ذلك بالمنع؛ إذ معنى قوله: إلا أن يعفون أي: إلا أن يتركن شطر ما جعل للمرأة من المهر. [ ص: 620 ]

        ومن المعلوم أن المهر لا يلزم أن يكون دينا، بل يصح أن يكون عينا من عقار وغيره، فإذا جعل مهرها عقارا ثم طلقها قبل الدخول فلها نصفه مشاعا، فإذا عفت عنه فقد وهبته إياه مشاعا، والوقف كالهبة بجامع أن كلا منهما تبرع.

        2 - ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: إن المئة سهم التي لي بخيبر لم أصب مالا قط أعجب إلي منها قد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « احبس أصلها، وسبل ثمرتها ».

        وجه الاستدلال: أن عمر رضي الله عنه أراد التصدق بسهامه التي بخيبر - وهي مشاعة - مع غيره فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوقفها.

        ونوقش من وجوه:

        الوجه الأول: أنه يحتمل أن عمر وقف المئة سهم قبل القسمة، ويحتمل أنه بعدها، فلا يكون حجة مع الشك.

        ويجاب عنه: بالمنع؛ لأن عمر رضي الله عنه لما استشار النبي صلى الله عليه وسلم في وقف المئة سهم كانت مشاعا، وأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم بوقفها وهي كذلك ولم يأمره بالقسمة ولا علق حكم الوقف عليه ، فدل ذلك على جواز وقف المشاع، والدليل على أنها كانت مشاعا: أن عمر رضي الله عنه لما كتب كتاب وصيته ذكر فيه « هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث أن ثمغا وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه والمئة سهم الذي بخيبر...تليه حفصة ما عاشت... » . [ ص: 621 ]

        فذكر ثمغا باسمها ولم يذكر غيرها إلا المئة سهم، وهذا يشعر بكون السهام مشاعا غير مقسومة وقت الكتابة، وهذا هو الظاهر المتبادر منه، ومن ادعى غير ذلك فعليه البيان.

        الوجه الثاني: أنه إن ثبت الوقف قبل القسمة، فيحمل أنه وقفها شائعا ثم قسم وسلم.

        ويجاب عنه: بأن هذا الحمل دعوى لا دليل عليها، بل الدليل بخلافها، وهو: أن خيبر لم تقسم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت مشاعا، وعمر وقف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، والدليل على أنها لم تقسم، وإنما قسمت في خلافة عمر رضي الله عنه.

        (179) ما رواه البخاري ومسلم من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع، فكان يعطي أزواجه كل سنة مئة وسق ثمانين وسقة من تمر، وعشرين وسقة من شعير، فلما ولي عمر قسم خيبر » الحديث.

        الوجه الثالث: قال ابن حجر: « لم أجد صريحا أن المئة سهم كانت مشاعا، بل في مسلم ما يشعر بغير ذلك، فإنه قال: « إن المال المذكور يقال له ثمغ وكان نخلا ».

        ويجاب عنه: بأن ثمغا غير المئة سهم المذكورة، ويدل على ذلك أمران: [ ص: 622 ]

        أحدهما: كتاب صدقة عمر - رضي الله عنه - المتقدم فإن فيه التصريح بثمغ، وبالمئة سهم، وهذا يدل على تغايرهما.

        (180) الثاني: ما أخرجه الإمام أحمد من طريق حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا من يهود بني حارثة يقال لها ثمغ، فقال: يا رسول الله، إني أصبت مالا نفيسا، أريد أن أتصدق به، قال: « فجعلها صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، يليها ذوو الرأي من آل عمر... ».

        وبنو حارثة يهود كانوا يسكنون تلقاء المدينة.

        والمئة السهم إنما كانت بخيبر، وهذا يدل على تغايرهما.

        3 - حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، وفيه: « قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال: « أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك »، قلت: أمسك سهمي الذي بخيبر ».

        وجه الاستدلال: أن قوله صلى الله عليه وسلم : « أمسك عليك بعض مالك » ظاهر في أمره بإخراج بعض ماله وإمساك بعض ماله، من غير تفصيل بين أن يكون مقسوما أو مشاعا، فيحتاج من منع وقف المشاع إلى دليل المنع. [ ص: 623 ]

        4 - ما روى أنس رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد فقال: « يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا ». قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.

        وجه الاستدلال: أن ظاهر الحديث يدل على أنهم تصدقوا بالأرض المشاعة لله عز وجل، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم.

        ونوقش بأن الحديث لا دلالة فيه على وقف المشاع على أصل محمد بن الحسن؛ لأن المانع من الوقف - عنده - تعذر القبض، وهو هنا ممكن؛ لأن الكل صدقة، والقبض من الوالي في الكل وجد جملة واحدة، فهو كما لو تصدق بها رجل واحد.

        لكن روى الواقدي: « أن أبا بكر دفع ثمن الأرض لمالكها منهم وقدره عشرة دنانير ».

        وأجيب من وجهين:

        أحدهما: أن الأثر ضعيف جدا؛ لأن الواقدي متروك.

        الثاني: لو سلم بثبوته فالحجة من الحديث في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينكر قولهم ذلك، فلو كان وقف المشاع لا يجوز لأنكر عليهم، وبين لهم الحكم.

        واعترض: بأن عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يتبين له مالك الأرض؛ لأنها كانت لغلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فلما تبين له المالك [ ص: 624 ] ساومهما فقالا: « بل لك يا رسول الله ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا ».

        ويرد عليهم: بأن الإنكار - عند عدم الجواز - لا يتعلق بكون الواقف مالكا أو غير مالك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسكت على الباطل، فلما لم يتبين لهم عدم الجواز علمنا صحة الوقف، لا سيما وأنه قد صدر من أولياء اليتيمين وهم يعتبرون أنفسهم في حكم المالكين؛ لأن في بعض طرق الحديث: « أنهم أرضوهما بالمال فأبيا ذلك لما علما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريده، وأرادا أن يكون هذا الفضل من عندهما ».

        5 - وقال البخاري: لقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن حين سألوه المغانم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « نصيبي لكم ».

        التالي السابق


        الخدمات العلمية