الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 599 ] بكار بن قتيبة

                                                                                      ابن أسد بن عبيد الله بن بشير بن صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي بكرة نفيع بن الحارث ، الثقفي البكراوي البصري ، القاضي الكبير ، العلامة المحدث ، أبو بكرة ، الفقيه الحنفي ، قاضي القضاة بمصر .

                                                                                      مولده في سنة اثنتين وثمانين ومائة بالبصرة .

                                                                                      وسمع أبا داود الطيالسي ، وروح بن عبادة ، وعبد الله بن بكر السهمي ، وأبا عاصم ، ووهب بن جرير ، وسعيد بن عامر الضبعي ، وطبقتهم .

                                                                                      وعني بالحديث ، وكتب الكثير ، وبرع في الفروع ، وصنف واشتغل .

                                                                                      حدث عنه : أبو عوانة في " صحيحه " ، وابن خزيمة ، وعبد الله بن عتاب الزفتي ، ويحيى بن صاعد ، وابن جوصا ، وأبو جعفر الطحاوي ، وابن زياد النيسابوري ، وابن أبي حاتم ، ومحمد بن المسيب الأرغياني ، وأبو علي بن حبيب الحصائري ، وأبو الطاهر أحمد بن محمد بن عمرو الخامي ، وأحمد بن سليمان بن حذلم ، ومحمد بن محمد بن أبي حذيفة الدمشقي ، وأبو العباس الأصم ، والحسن بن محمد بن النعمان الصيداوي ، وأبو بكر محمد بن حمدون بن خالد النيسابوري ، وأحمد بن عبد الله الناقد ، وخلق كثير من أهل مصر ودمشق ، ومن الرحالة ، وكان من قضاة العدل . [ ص: 600 ]

                                                                                      قال أبو بكر بن المقرئ : حدثنا محمد بن بكر الشعراني بالقدس ، حدثنا أحمد بن سهل الهروي قال : كنت ساكنا في جوار بكار بن قتيبة ، فانصرفت بعد العشاء ، فإذا هو يقرأ : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله قال : ثم نزلت في السحر ، فإذا هو يقرؤها ، ويبكي ، فعلمت أنه كان يتلوها من أول الليل .

                                                                                      قال محمد بن يوسف الكندي : قدم بكار قاضيا إلى أن توفي ، فأقامت مصر بلا قاض بعده سبع سنين ، ثم ولى خمارويه محمد بن عبدة القضاء . قال : وكان أحمد بن طولون أراد بكارا على لعن الموفق ، -يعني : ولي العهد- فامتنع ، فسجنه ، إلى أن مات أحمد بن طولون ، فأطلق القاضي بكار ، وبقي يسيرا ومات ، فغسل ليلا ، وكثر الناس ، فلم يدفن إلى العصر .

                                                                                      قلت : كان عظيم الحرمة ، وافر الجلالة ، من العلماء العاملين ، كان السلطان ينزل إليه ، ويحضر مجلسه ، فذكر أبو جعفر الطحاوي أن بكار بن قتيبة استعظم فسخ حكم الحارث بن مسكين في قضية ابن السائح ، -يعني لما حكم عليه- فأخرج من يده دار الفيل ، وتوجه ابن السائح إلى العراق بغوث على ابن مسكين . قال الطحاوي : وكان الحارث إنما حكم فيها بمذهب أهل المدينة ، فلم يزل يونس بن عبد الأعلى يكلم القاضي بكارا ، ويجسده حتى جسد ، ورد إلى ابني السائح الدار . ولا أحصي كم كان أحمد بن طولون يجيء إلى مجلس بكار وهو يملي ، ومجلسه مملوء بالناس ، فيتقدم الحاجب ، ويقول : لا يتغير أحد من مكانه ، فما يشعر بكار إلا وأحمد إلى جانبه ، فيقول له : أيها الأمير ، ألا تركتني كنت أقضي [ ص: 601 ] حقك وأقوم ؟ قال : ثم فسد الحال بينهما حتى حبسه ، وفعل به ما فعل .

                                                                                      وقيل : إن بكارا صنف كتابا ينقض فيه على الشافعي رده على أبي حنيفة ، وكان يأنس بيونس بن عبد الأعلى ، ويسأله عن أهل مصر وعدولهم . ولما اعتقله ابن طولون لم يمكنه أن يعزله; لأن القضاء لم يكن إليه أمره .

                                                                                      وقيل : إن بكارا كان يشاور في حكم يونس ، والرجل الصالح موسى ولد عبد الرحمن بن القاسم ، فبلغنا أن موسى سأله : من أين المعيشة ؟ قال : من وقف لأبي أتكفى به . قال : أريد أن أسألك يا أبا بكرة ، هل ركبك دين بالبصرة ؟ قال : لا . قال : فهل لك ولد أو زوجة ؟ قال : ما نكحت قط ، وما عندي سوى غلامي . قال : فأكرهك السلطان على القضاء؟ قال : لا . قال : فضربت آباط الإبل بغير حاجة إلا لتلي الدماء والفروج ؟ لله علي لا عدت إليك ، قال : أقلني يا أبا هارون . قال : أنت ابتدأت بمسألتي ، انصرف ، ولم يعد إليه .

                                                                                      قلت : رضي الله عن موسى ، فلقد صدقه ، وصدعه بالحق . ولم يكن بكار مكابرا ، فيقول : تعين علي القضاء .

                                                                                      وقال الحسن بن زولاق في ترجمة بكار : لما اعتل أحمد بن طولون ، راسل بكارا ، وقال : إنا رادوك إلى منزلك ، فأجبني ، فقال : [ ص: 602 ] قل له : شيخ فان وعليل مدنف ، والملتقى قريب ، والقاضي الله عز وجل . فأبلغها الرسول أحمد ، فأطرق ، ثم أقبل يكرر ذلك على نفسه ، ثم أمر بنقله من السجن إلى دار اكتريت له ، وفيها كان يحدث ، فلما مات الملك قيل لأبي بكرة : انصرف إلى منزلك ، فقال : هذه الدار بأجرة ، وقد صلحت لي ، فأقام بها .

                                                                                      قال الطحاوي : فأقام بها بعد أحمد أربعين يوما ومات .

                                                                                      قلت : كان ولي العهد الموفق قد استبد بالأمور ، وضيق على أخيه الخليفة المعتمد .

                                                                                      قال الصولي : تخيل المعتمد من أخيه ، فكاتب أحمد بن طولون ، واتفقا ، وقال المعتمد :

                                                                                      أليس من العجائب أن مثلي يرى ما قل ممتنعا عليه     وتؤكل باسمه الدنيا جميعا
                                                                                      وما من ذاك شيء في يديه؟

                                                                                      !

                                                                                      فبلغنا أن ابن طولون جمع العلماء والأعيان ، وقال : قد نكث الموفق أبو أحمد بأمير المؤمنين ، فاخلعوه من العهد فخلعوه ، إلا بكار بن قتيبة . وقال : أنت أوردت علي كتاب المعتمد بتوليته العهد ، فهات كتابا آخر منه بخلعه . قال : إنه محجور عليه ومقهور؟ قال : لا أدري . فقال له : غرك الناس بقولهم : ما في الدنيا مثل بكار ، أنت قد خرفت وقيده وحبسه ، وأخذ منه جميع عطائه من سنين ، فكان عشرة آلاف دينار ، فقيل : إنها وجدت بختومها وحالها . وبلغ ذلك الموفق ، فأمر بلعن ابن طولون على المنابر . [ ص: 603 ] ونقل القاضي ابن خلكان أن ابن طولون كان ينفذ إلى بكار في العام ألف دينار ، سوى المقرر له ، فيتركها بختمها ، فلما دعاه إلى خلع الموفق ، طالبه بجملة المال ، فحمله إليه بختومه ثمانية عشر كيسا ، فاستحيا ابن طولون عند ذلك ، ثم أمره أن يسلم القضاء إلى محمد بن شاذان الجوهري ، ففعل ، واستخلفه ، وكان يحدث من طاقة السجن; لأن أصحاب الحديث طلبوا ذلك من أحمد ، فأذن لهم على هذه الصورة .

                                                                                      قال ابن خلكان : وكان بكار تاليا للقرآن ، بكاء صالحا دينا ، وقبره مشهور قد عرف باستجابة الدعاء عنده .

                                                                                      قال الطحاوي : كان على نهاية في الحمد على ولايته ، وكان ابن طولون على نهاية في تعظيمه وإجلاله إلى أن أراد منه خلع الموفق ، قال : فلما رأى أنه لا يلتئم له ما يحاوله ألب عليه سفهاء الناس ، وجعله لهم خصما ، فكان يقعد له من يقيمه ، مقام الخصوم ، فلا يأبى ، ويقوم بالحجة لنفسه ، ثم حبسه في دار ، فكان كل جمعة يلبس ثيابه وقت الصلاة ، ويمشي إلى الباب ، فيقولون له الموكلون به : ارجع ، فيقول : اللهم اشهد .

                                                                                      قال أبو عمر الكندي : قدم بكار قاضيا من قبل المتوكل في جمادى [ ص: 604 ] الآخرة سنة ست وأربعين ومائتين ، فلم يزل قاضيا إلى أن توفي في ذي الحجة سنة سبعين ومائتين . وقيل : شيعه خلق عظيم أكثر ممن يشهد صلاة العيد ، وأمهم عليه ابن أخيه محمد بن الحسن بن قتيبة الثقفي . رحمه الله تعالى .

                                                                                      قلت : عاش تسعا وثمانين سنة .

                                                                                      وفيها مات أحمد بن طولون صاحب مصر ، وإبراهيم بن مرزوق ، وأسيد بن عاصم ، والحسن بن علي بن عفان ، والربيع المرادي ، وزكريا بن يحيى المروزي ، وعباس بن الوليد بن مزيد ، ومحمد بن مسلم بن وارة ، ومحمد بن هشام بن ملاس ، ومحمد بن ماهان رفيقه ، وأحمد بن المقدام الهروي ، وأحمد بن عبد الله البرقي ، وداود الظاهري ، وأبو بكر الصغاني ، وأبو البختري ابن شاكر .

                                                                                      أخبرنا عمر بن عبد المنعم ، أخبرنا عبد الصمد بن محمد حضورا في سنة تسع وست مائة ، أخبرنا علي بن المسلم ، أخبرنا ابن طلاب ، أخبرنا ابن جميع ، حدثنا الحسن بن محمد بن النعمان بصور ، حدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا أبو مطرف بن أبي الوزير ، حدثنا موسى بن عبد الملك بن عمير ، عن أبيه ، عن شيبة الحجبي ، عن عمه -يعني : عثمان بن طلحة - قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ثلاث يصفين لك ود أخيك : تسلم عليه إذا لقيته ، وتوسع له في المجلس ، وتدعوه بأحب أسمائه إليه . [ ص: 605 ]

                                                                                      أخبرنا علي بن أحمد الحسيني بالإسكندرية ، أخبرنا محمد بن أحمد ببغداد ، أخبرنا محمد بن عبيد الله ، أخبرنا أبو نصر الزينبي ، أخبرنا أبو طاهر المخلص ، حدثنا يحيى بن محمد ، حدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا سليم بن حيان ، حدثنا سعيد بن ميناء ، حدثنا ابن الزبير ، أخبرتني عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها : لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية ، لهدمت الكعبة ، وألزقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابين : بابا شرقيا ، وبابا غربيا ، ولزدت ستة أذرع من الحجر في البيت ، فإن قريشا استقصرت لما بنت البيت .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية