الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإسراف في المآدب

الإسراف في المآدب

 الإسراف في المآدب

في الشريعة السمحة آداب اجتماعية عالية لو عمل بها المسلمون، لما لحقت غبارهم أمة في مكارم الأخلاق وتهذيب النفوس، فلو عمل المسلم بشريعته فأخرج الزكاة مثلًا لما رأيت اليوم فقيرًا ولا جائعًا ولا عريانًا، ولو تجانف الكذب والتزوير وأكل المال بغير حق لما اشتغل القضاة طول النهار بفض الخصومات بين الناس.

البشر الآن في ضائقة، لم ينلهم بعضها من عهد حفظ التاريخ، أمن المروءة أن ينعم بعض أفراده ويسرفوا على حين تكفي فضلات طعامهم والزوائد من رفاهيتهم ومظاهرهم لأن تعول كثيرين من المحاويج؟! وأغرب طرق الإسراف أن يفضل المتوسط الذي هو أقرب إلى الفقر من الغنى على الأغنياء والمنعمين ليقال عنه إنه كريم، وهو يرى في أهل محلته والمحتفين به مئات يطوون الليالي على الطوى ولا راحم لأنينهم.

كثير من أوضاعنا وعاداتنا يحتاج إلى أن يعالَج بالإصلاح لنعود به إلى هدى الإسلام، أو حتى إلى أساليب المدنية الحديثة، فقد أصبحنا في معظم حالاتنا لا إلى القديم نُنسب ولا بالحديث نُعرف أو نَعرف، فغدا مجتمعنا وفيه كثير من الغث والرث وضروب من سخيف العادات والمراسم.

دعا منذ أيام أحد المنتسبين للمعارف مائة وثلاثة أشخاص من أهل بلده إلى حضور مأدبة لهم أقامها في داره، وأطعمهم أجود الطعام، وضروب الحلواء والمعجنات، ولولا لطف المولى لأصيبوا بالتخمة وسوء الهضم! وقد كان المدعوون أشتاتًا لا تجمع بين كثير منهم إلا جامعة السكنى في بلده، ومن العادة أن يجتمع في المآدب الخاصة عند المتمدنين أهل طبقة معينة من الناس حتى يأنس المدعوون، يتساوون في الجلوس إلى الخوان بحيث يكلمهم صاحب الدعوة ويكلمونه، ولكن هذه الدعوة كانت كما هي معظم الدعوات في هذه الديار لمجرد إملاء بطون المدعوين، كأنهم في مطعم اجتمعوا بالعرض، ولا جامعة بينهم إلا جامعة الأكل.

فتأمل أمشاجًا من الناس يشتركون على طعام، وهو ساعة مؤانسة ومباسطة، هل يجدون حديثًا يلذهم على السواء، وينفض عقد اجتماعهم على لا شيء، اللهم إلا قشور من حديث معاد، وأمور لاكتها الألسن، فلا تنفع في دين ولا دنيا.
قد يضطر بعض أرباب المروءات إلى عشرة المتخالفين في الأذواق والمشارب، وتدعوه الحال إلى مباسطتهم والأنس معهم أحيانًا، فإذا أراد أن يجمعهم كلهم في صعيد واحد في يوم واحد، يكون قد أساء إليهم في الحقيقة أكثر مما أحسن، خصوصًا من علت عاداتهم عن مستوى العادات العامية، التي لا ترجع إلى أصل من الأصول المتعارفة، فقد قال حجة الإسلام في باب آداب المآدب من إحياء العلوم: "وينبغي للداعي ألَّا يدعو من يعلم أنه يشق عليه الإجابة، وإذا حضر تأذى بالحاضرين بسبب من الأسباب" ، والغربي اليوم إذا دعا في الغالب إنسانًا يقول له أو يكتب أن مأدبته يكون عليها معه فلان وفلان، فالمدعو إذا لم يرقه الاجتماع بأحدهما يكتب قبل ميعاد الدعوة بالاعتذار عن الحضور.

وليمة فيها زهاء مائة مدعو، لو أدبت في أرقى عواصم الأرض لما حوت إلا أخلاط الزمر، فعلى من اضطر إلى دعوة هذا العدد الدثر أو السرية الكاملة، أن يقسمها إلى خمس مآدب ويقسم الأطعمة وما يتبعها، والنفقات وما يتشعب منها، على تلك النسبة، وهناك تحصل الفائدة من الاجتماع، ويعرف كل مدعو أنه حضر واستأنس حقيقة، وإذا كان صاحب الدعوة يريد مظهرًا، فمظهر الخمسة أكبر من مظهر الواحد على كل حال.

أقبح ما يقبح من أحوالنا أن نسرف في موطن نحتاج فيه كل الحاجة إلى الاقتصاد وصرف المال في سبيله المشروعة، نطعم أرباب المظاهر، ونسرف في المأكل والمشرب والملبس، ثم نشاهد عباد الله يتضورون جوعًا، ولا تأخذنا بهم رحمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها الأغنياء دون الفقراء).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة