الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التشهد بعد سجدتي السهو

السؤال

أنا إمام مسجد، أشكر فضيلتكم على مجهوداتكم النافعة التي استفدنا منها كثيرًا.
قد طالعت فتوى موقعكم بخصوص التشهد في سجود السهو، وقد رجحتم أنه لا يشرع التشهد؛ لضعف الحديث الوارد في ذلك، لكن قد ورد أثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عند ابن أبي شيبة أنه قال في سجود السهو: (فيهما تشهد)، وصحّح إسناده ابن حجر في الفتح، وابن مسعود قد روى حديثًا في سجود النبي صلى الله عليه وسلم للسهو، كما عند البخاري ومسلم، فقول ابن مسعود هذا يبعد أن يكون قاله من رأيه واجتهاده؛ لأنه حضر سجود سهو النبي صلى الله عليه وسلم، وأبعد منه أن يكون شاهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يتشهد في الحديث الذي رواه، ثم يثبت بعد ذلك التشهد،
وقد يقال: إنه ثبت عن أنس -رضي الله عنه- أنه سلم، ولم يتشهد في سجود السهو، كما رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم، وقول بعض الصحابة ليس حجة على بعض، فيجاب عنه: أن الأقرب هو ما ذهب إليه ابن مسعود؛ لأنه أحد الرواة الذين شاهدوا سجود سهو النبي صلى الله عليه وسلم، بينما أنس -رضي الله عنه- لم أجد أنه روى حديثًا عن سجود سهو النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى فرض شهوده لذلك -وهو المحتمل- فإنه تقرر عند العلماء أن المثبت مقدم على النافي.
وقد يقال أيضًا: إن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ذكر التشهد، فترجح إذن على قول ابن مسعود -رضي الله عنه-، ويجاب عنه من وجهين:
الأول: أنه عند التدبر في أحاديث سجود السهو، نجد أن الرواة لم يذكروا أيضًا تشهد الصلاة الذي قبل سجود السهو في معظم الروايات، كما عند مسلم من حديث عمران بن حصين، وفيه: (...فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ)، فلم يذكر تشهد الصلاة، ولعل ذلك اختصار، أو لأنه معلوم، فقد يقال في سجود السهو مثل ذلك.
الثاني: أن إثبات ابن مسعود للتشهد في سجود السهو ليس مخالفًا لما ورد في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ليس فيها ذكر التشهد؛ إذ غاية ما في قوله: إنه زيادة توضيح للحديث، أو هو من باب زيادة الثقة.
فمن خلال كل هذه الاعتبارات: هل يمكن القول: إن الراجح هو ثبوت التشهد في سجود السهو؛ لثبوته في قول ابن مسعود راوي الحديث، أم إنه لا اعتبار لهذا؟
نرجو منكم الإجابة المفصلة المريحة التي لها وزن عندي؛ للخروج بقول راجح تطمئن له النفس؛ لإفتاء الناس به في المسجد. وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد ذكرنا في الفتوى: 325729 خلاف الفقهاء في مشروعية التشهد بعد سجدتي السهو، ولم نرجح فيها قولًا على آخر، بل قلنا فيها: إن من أتى بالتشهد بعد سجدتي السهو، فهو على صواب؛ بناء على أقوال بعض أهل العلم، ولا حرج عليه.

وكذا ذكرنا هذه المسألة في الفتوى: 289183، والفتوى: 146273، ولم نرجح أحد الأقوال، وقلنا: إن الأمر في هذه المسألة واسع؛ لأن التشهد بعد سجدتي السهو وإن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عن بعض الصحابة، فمن تشهد بعد سجدتي السهو، فلا حرج عليه، ومن ترك التشهد وسلم، فلا حرج عليه -إن شاء الله-.

وما ذكرته من أثر ابن مسعود- رضي الله عنه- الذي صححه الحافظ في الفتح، والاستدلال به على مشروعية التشهد بعد السلام في سجدتي السهو اعتمادًا على أن ابن مسعود روى حديثًا في سجود السهو جوابنا عنه في الآتي:

أولًا: الحديث الذي رواه ابن مسعود في سجود السهو هو حديث: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَفِي لَفْظ: ثمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ. كما روى أيضًا حديث أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-: صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ: أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟»، قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ. والحديث في الصحيحين، وغيرهما، وظاهرٌ أن الحديث ليس فيه ذكر للتشهد، ولو كان التشهد مأمورًا به شرعًا هنا لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأمر به، وهذا ربما يرجح أن قولَ ابن مسعود الموقوفَ عليه في التشهد بعد سجدتي السهو أنه إنما قاله اجتهادًا منه، وليس عنده فيه شيء مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: لا يقال هنا: إن الحديث ليس فيه ذكر للتشهد الذي هو من صلب الصلاة قبل السلام أيضًا؛ وذلك لأن هذا التشهد من صلب الصلاة، وقد جاء في رواية البخاري للحديث: فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ. فقوله: فَلْيُتِمَّ عليه. أي: يتم صلاته، وهذا متضمن للتشهد قبل السلام؛ لأنه من صلب الصلاة.

ثالثًا: لا يصح أن يقال: إن ما ورد عن ابن مسعود من قوله الموقوف عليه داخل في زيادة الثقة؛ لأن زيادة الثقة مبحثها فيما رُفِعَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا في الأقوال الموقوفة على الصحابة -رضي الله عنهم-، كما هو معلوم في علم مصطلح الحديث، كما أن هذا القول من ابن مسعود -رضي الله عنه- ليس من الأقوال التي لا مجال للرأي فيها، ولا تؤخذ إلا من الوحي، كالغيبيات مثلًا.

والخلاصة: أن الأمر في هذا واسع -إن شاء الله تعالى-.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني