الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا يوجد مع الله في الأزل أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية

السؤال

نقل ابن تيمية في كتابه درء التعارض قول الرازي الآتي: "الوجه الخامس في نفي علوه على الخلق أن الأحياز إن تساوت في تمام الماهية، كان حصوله في بعضها بدلاً عن الآخر جائزا، فافتقر فيه إلى مرجح، وإن تخالفت فيها كانت متباينة بالعدد، والماهية تختص بخواص معينة وصفات معينة، وهي غير متناهية، فقد وجد في الأزل مع الله أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية، ولا يرتضيه مسلم".
رد ابن تيمية عليه من وجوه، وقال ابن تيمية في الوجه الخامس الآتي: "الوجه الخامس أن يقال: الحيز، إما أن يقال: إنه موجود، وإما أن يقال: إنه معدوم. فإن قيل: هو معدوم، لم يلزم أن يكون مع الله في الأزل شيء موجود. وإن قيل: هو موجود، فإما أن يكون وجوده في الأزل ممتنعا، وإما أن يكون ممكنا، فإن كان ممتنعا تعين القسم الأول، وهو أن الأحياز متماثلة في تمام الماهية، فإن العدم المحض لا يتميز فيه شيء عن شيء، وحينئذ فالتخصيص المفتقر إلى المرجح يحصل: إما بقدرته ومشيئته، على قول المسلمين وجمهور الخلق، وإما بالذات عند من يجوز نظير ذلك، وإن كان وجوده في الأزل ممكنا، فلا محذور فيه، فبطل انتفاء اللازم"
المشكل عليَّ في كلام شيخ الإسلام عبارة: "وإن كان وجوده في الأزل ممكنا، فلا محذور فيه، فبطل انتفاء اللازم"
هل قوله: فلا محذور فيه. معناه أن ابن تيمية يرى أنه لا محذور في كون الحيز وجوده في الأزل ممكنا. فأنا لا أعتقد هذا؛ لأن عقيدة المسلمين أن وجود أزلي مع الله ممتنع.
والذي فهمته أنا أن شيخ الإسلام يقصد بقوله: "وإن كان وجوده في الأزل ممكنا، فلا محذور فيه، فبطل انتفاء اللازم". أي أنه يقصد أنه إذا افترضنا أن وجود الحيز في الأزل ممكنا، وافترضنا أنه لا محذور في وجوده في الأزل؛ فحينئذ يبطل انتفاء اللازم. أي يجب أن يقع اللازم الباطل وهو كون مع الله أشياء أزلية. أي أن شيخ الإسلام أراد أن يصل بالرازي لنتيجة وهي: كون الحيز أمر عدمي؛ لأننا لو قلنا إنه موجود فإما أن يكون وجوده في الأزل ممتنعا، وحينئذ سيكون معدوما أيضا في الأزل. وأما أن يكون وجوده في الأزل ممكنا، وحينئذ سيحصل اللازم الذي يرفضه جميع المسلمين، وهو كون مع الله شيء أزلي. فهل فهمي صحيح؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فليس هذا هو مراد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وإنما مراده أن وجود أحياز في الأزل إن كان ممكنا، فلا يلزم منه وجود أشياء قائمة بنفسها، أزلية مع الله تعالى!

وأصل ذلك أن الرازي قد استدل على نفي علو الله سبحانه على خلقه، بأن ذلك يستلزم وجود أشياء (أحياز) قائمة بأنفسها مع الله في الأزل! فردَّ شيخ الإسلام هذا الاستدلال بإبطال هذا اللازم، وذلك أن الحيز أمر عدمي كما وضحه شيخ الإسلام في الأوجه الأولى لرد كلام الرازي. وبالتالي لا يلزم منه أن يكون مع الله في الأزل شيء موجود. وإن فرضنا أن الحيز أمر وجودي، فهذا الوجود إما أن يكون ممتنعا في الأزل، فيكون كالأول، وإما أن يكون ممكنا، وهذا لا محذور فيه؛ لأن الممكن لا يقوم بنفسه، ولا تقتضي ذاته وجوده، ولا عدمه، وإنما يلزم هذا في واجب الوجود القائم بنفسه، لا ممكن الوجود الذي لا بد أن يُسبَق بواجب الوجود.

ولذلك حكم شيخ الإسلام بأن وجود الممكن في الأزل لا يترتب عليه اللازم الباطل من وجود موجود قائم بنفسه مع الله تعالى في الأزل. وهذا يحتاج إلى تعريف الممتنع، والواجب، والممكن، وقد سبق لنا بيانه في الفتوى: 364606.

وتجد فيها التنبيه على أن إرادة الله تعالى إنما تتعلق بالممكنات لا الواجبات ولا الممتنعات.

وقد أكد ذلك شيخ الإسلام في الوجه التاسع من أوجه رد كلام الرازي، فسلَّم له بصحة حجة: أن المسلمين ليس فيهم من يرتضي أن يوجد معه في الأزل أشياء موجودة قائمة بأنفسها غير متناهية.

وقال: ومعلوم أن هذا لا يرتضيه المسلمون من أهل الإثبات وغيرهم؛ لاعتقادهم أن ذلك ليس من لوازم قولهم، فإذا قدر أنه من لوازم قولهم، احتاج نفيه إلى دليل ... فإذا احتج المحتج بمثل قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} و: {رب العالمين} ونحو ذلك، لم يدل إلا على أن الأحياز الموجودة مخلوقة لله، وهو ربها، وهذا لا ينازع فيه مسلم. اهـ.

وقال قبلها في الوجه السابع: إذا قدر أن هذه الأحياز مفتقرة إليه، ممكنة بنفسها واجبة به، أمكن أن يقال فيها ما يقوله من يجوِّز أن يكون معه ما هو من لوازم ذاته. اهـ.

وقال في الثامن: المثبت لا يقول: إنه يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه، فإن هذا ليس هو معروفا من أقوال المثبتين. وإن قدر قائل يقوله أمكنه أن يقول: هذا من لوازم ذاته، وحينئذ فإن جاز أن يلزمه أمر وجودي كان هذا ممكنا، وإلا تعين قول من يجعل الحيز عدميا. اهـ.

ولمزيد الإيضاح نشير إلى أن مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة تسلسل الحوادث، فهو يمنع من حوادث لا أول لأعيانها، وبإمكان حوادث لا أول لأنواعها، وهذا الثاني (إثبات التسلسل في الأنواع لا الأعيان) لا يستلزم القول بقدم العالم، بمعنى أنه وجد بلا خالق، أو أن أفراده غير مسبوقة بالعدم!! بل كل فرد منها مسبوق بالعدم، وبالخالق الذي خلقه. وراجع في تفصيل ذلك الفتويين: 190011، 297787.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني