الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
السابع من شعب الإيمان ، وهو باب في الإيمان بالبعث والنشور بعد الموت .

وآيات القرآن في البعث كثيرة فمنها : قول الله عز وجل : ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ) .

وقوله : ( قل الله يحييكم ثم يميتكم ) الآية ، وقوله : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ، وأنكم إلينا لا ترجعون ) " .

وروينا عن مطر الوراق ، عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، عن ابن عمر ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإيمان قال : فقال : يا رسول الله ، ما الإيمان ؟ قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وبالبعث من بعد الموت ، وبالقدر كله .

[ 253 ] " أخبرناه أبو بكر أحمد بن محمد الأشناني ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس ، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن مطر فذكره .

وهو مخرج في كتاب مسلم " والإيمان بالبعث هو أن يؤمن بأن الله تعالى يعيد الرفات من أبدان الأموات ، [ ص: 411 ] ويجمع ما تفرق منها في البحار ، وبطون السباع وغيرها حتى تصير بهيئتها الأولى ، ثم يجمعها حية ، فيقوم الناس كلهم بأمر الله تعالى أحياء ، صغيرهم وكبيرهم حتى السقط الذي قد تم خلقه ، ونفخ فيه الروح ، فأما الذي لم يتم خلقه ، أو لم ينفخ فيه الروح أصلا ، فهو وسائر الأموات بمنزلة واحدة ، والله تعالى أعلم .

وأما قول الله عز وجل في صفة القيامة : ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ) .

فإنما أراد الحوامل اللاتي متن بأحمالهن ، فإذا بعثن أسقطن تلك الأحمال من فزع يوم القيامة ، ثم إن كانت الأحمال أحياء في الدنيا أسقطنها يوم القيامة أحياء ، ولا يتكرر عليها الموت ، وإن كانت الأحمال لم ينفخ فيها الروح في الدنيا ، أسقطنها أمواتا ، كما كانت ؛ لأن الإحياء إنما هو إعادة الحياة إلى من كان حيا فأميت ، ومن لم يكن له في الحياة نصيب فلا نصيب له في الحياة الآخرة .

وقد ذكر الله عز وجل في غير آية من كتابه إثبات البعث منها قول الله عز وجل : ( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) .

وقال : ( أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ) فأحال بقدرته على إحياء الموتى على قدرته على خلق السماوات والأرض التي هي أعظم جسما من الناس . [ ص: 412 ]

ومنها قوله عز وجل : ( قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) فجعل النشأة الأولى دليلا على جواز النشأة الآخرة ؛ لأنها في معناها ، ثم قال : ( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ، فإذا أنتم منه توقدون ) فجعل ظهور النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على نداوته ورطوبته دليلا على جواز خلقه الحياة في الرمة البالية ، والعظام النخرة ، وقد نبهنا الله عز وجل في غير آية من كتابه على إحياء الموتى بالأرض تكون حية تنبت وتنمى ، وتثمر ، ثم تموت فتصير إلى أن لا تنبت ، وتبقى خاشعة جامدة ، ثم يحييها فتصير إلى أن تنبت وتنمى وهو الفاعل لحياتها وموتها ثم حياتها ، فإذا قدر على ذلك لم يعجزه أن يميت الإنسان ، ويسلبه معاني الحياة ، ثم يعيدها إليه ، ويجلعه كما كان .

ونبهنا بإحياء النطفة التي هي ميتة ، وخلق الحيوان منها على قدرته على إحياء الموتى فقال عز وجل : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) يعني نطفا في الأصلاب ، والأرحام فخلقكم منها بشرا تنتشرون .

وقال تعالى : ( ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ) . [ ص: 413 ] فأعلمنا أنه إذا أخرج النطفة من صلب الأب فهي ميتة ، ثم إنه جل ثناؤه جعلها حية في رحم الأم ، يخلق من يخلق منها ، ويركب الحياة فيه فهذا إحياء ميتة في المشاهدة ، فمن يقدر على هذا لا يعجز عن أن يميت هذا الخلق ، ثم يعيده حيا ، ثم بسط هذا المعنى في آية أخرى فقال : ( ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ونبهنا على ذلك بفلق الحب والنوى فقال عز وجل : ( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ) .

وذلك أن الحب إذا جف ويبس بعد انتهاء نمائه وقع اليأس من ازدياده ، وكذلك النوى إذا تناهى عظمه ، وجف ويبس كانا ميتين ، ثم إنهما إذا أودعا الأرض الحية فلقهما الله تعالى ، وأخرج منهما ما يشاهد من النخل ، والزرع حيا ينشأ وينمو إلى أن يبلغ غايته ، ويدخل في هذا المعنى البيضة تفارق البائض ، ويجري عليها حكم الموت ، ثم يخلق الله منها حيا فهل هذا إلا إحياء الميتة ، وهو أمر مشاهد والعلم به ضرورى .

وقد نبهنا الله عز وجل على إحياء الموتى بما أخبر من إراءة إبراهيم عليه السلام إحياء الأموات ، وقد نقلته عامة أهل الملل .

وبما أخبر به عن الذين خرجوا من ديارهم ، وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم [ ص: 414 ]

وبما أخبر به عن الذي مر على قرية ، وهي خاوية على عروشها قال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) .

وبما أخبر به عن عصا موسى عليه السلام وقلبه إياه حية ، ثم إعادتها خشبة ، ثم جعلها عند محاجة السحرة حية ، ثم إعادتها خشبة ، وقد اشتركت عامة أهل الملل في نقله . وبما أخبر به من شأن أصحاب الكهف الذين ضرب على آذانهم زيادة على ثلثمائة سنة ، ثم أحياهم ليدل قومهم عندما أعثرهم عليهم على أن ما أنذروا به من البعث بعد الموت حق لا ريب فيه وقد نقلنا الآثار في شرح ذلك في الأول من كتاب " البعث والنشور " [ ص: 415 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية