المطلب الأول: الفقه السياسي
ففي الفقه السياسي تعرض الشوكاني فـي رسائل مختلفـة لقضايا سياسية هـامة أفرزتها طبيعة نظام الحكم السائد فـي البلاد الإسلامـية، وما ترتب عليه من قناعات ومواقف سياسية ميزت الفكر السياسي في عصره؛ مثل: مبدأ فصل الدين عن الدولة، مبدأ الصلة بالحكام، عوامل الاستقرار السياسي.
هذه الموضوعات وغيرها مثلت منطلق الإصلاح السياسي عند الشوكاني؛ ذلك لأن الوصول إلى تصور شرعي فيها سيساهم إلى حد كبير في تصحيح المفاهيم الخاطـئة التي أنـتجتها النـظرة الجزئية للدين الإسلامي، والتدين به في عصور الانحطاط، والتأكيد على البعد الشمولي للإسلام، وأنه نـظام حياة لا ينحصر في عـلاقة الإنسان بربه فقط.
أما مبدأ فصل الدين عن الدولة : فقد اهتم الشوكاني ببيان جذوره التاريخية، ونتائج تطبيقه في المجتمع الإسلامي؛ لأنه صار العقيدة السياسية لكثير من أنظمة الحكم في العالم الإسلامي. فأعـاد جذوره إلى جينكزخان (548 - 624هـ) ملك التتار، الذي شرع مجموعة من القوانيـن الوضعية الخاصة بمراسيم الملوك والرعية، وفرضـها على رعاياه من [ ص: 208 ] المسلمين، وسار على هـذا النهج أولاده من بعده. ولما أسلم بعض حفدته، وبقي فيهم الملك في أرض الإسلام، التزموا العمل بهذه القوانين في الأمور المتعلقة بالملك مع إسلامهم، فرسخ هـذا المبدأ في البلاد الإسلامية، وبلور مفاهيم خـاطئة اتخـذها الحكام مبررا للتمسك بهذا المبدأ، مثل: أن الملك لا يصلح بالتدبيرات الشرعية، ولا يقوم بغير تلك القوانين الوضعية [1] .
وأما مبدأ الصلة بالحكام : فقد رفض الشوكاني اعتزال العلماء للمناصب؛ لأن زهدهم في مراكز التغيير في المجتمع والدولة يؤدي إلى زيادة ابتعادها عن تعاليم الإسلام، ورأى في المقابل أن اشتغال رجال العلم في أجهزة الحكم والدولة يعد وسيلة هـامة لتحقيق العدل، وترشيد الحكام، وتخفيف ظلمهم. ومما قاله في هـذا الشأن: «ولا يخفى على ذي عقل أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين عن مداخلة الملوك لتعطلت الشريعة المطهرة؛ لعدم وجود من يقوم بها، وتبدلت المملكة الإسلامية بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية، من ديانة ومعاملة، وعم الجهل وطم، وخولفت أحكام الكتاب والسنة جهارا، ولا سيما من الملك وخاصته وأتباعه» [2] . [ ص: 209 ] وخالف الشوكاني أولئك الذين يجعلون من شيوع المنكرات ذريعة لاعتزال مراكز التغيير في المجتمع والدولة، ورد استدلالهم القائم على سد الذرائع باستدلال منطقي عقلي فحواه: أن وجود المنكرات أمر ملازم لكل دولة مسلمة تلت فترة الخلافة الرائدة، حيث أصبح نظام الحكم ملكيا [3] .
واقترح دراسة إشكالية الصلة بالحكام في ضوء مقاصد الشريعة، وقواعدها العامة؛ كقاعدة: دفع الضرر الأعلى بالضرر الأدنى ، حيث قال: «فالمتصل بهم من أهل المناصب الدينية قد يغضي في بعض الأحوال عن شيء من المنكرات لا لرضى، بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هـو أعظم منه، ولا يتم له ذلك إلا بعدم التشدد فيما هـو دونه، وهو يعلم أنه لو تشدد في ذلك الدون لوقع هـو وذلك الذي هـو أشد منه وأشنع وأفظع» [4] .
كما وضع الشوكاني ضابطا هـاما في الاتصال بالحكام، وهو عدم تبرير ظلمهم وعدم المشاركة في تنفيذه فقال: «لكن هـذا المتصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم وجورهم، بل ليفتي بين الناس بحكم الله، فإن كان الأمر هـكذا، فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته لم يكن على هـؤلاء من ظلمه شيء، إذا كان لأحدهم مدخل في تخفيف الظلم، ولو أقل قليل وأحقر حقير، كان [ ص: 210 ] مع ما هـو فيه من المنصب مأجور أبلغ أجر؛ لأنه قد صار مع منصبه في حكم من يطلب الحق، ويكره الباطل، ويسعى بـما تبلغ إليه طاقته في دفعه، ولم يعنه على ظلمه، ولا سعى فـي تقرير ما هـو عليه أو تحسينه، أو إيراد الشبه في تجويزه، فإن أدخل نفسه في شيء من هـذه الأمور فهو في عداد الظلمة» [5] .
فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم في نظر الشوكاني يضبطها فقه الأولويات والموازنات، القائم على معرفة الضرر الأكبر والأخف. لكن إدراكا منه أن مبدأ عزلة المناصب والحكام صار قناعة فقهية عامة في المجتمع الإسلامي بأسره، أكد الإمام الشوكاني ضرورة تحرر العلماء من ضغط الواقع، وعدم تأثرهم بالأحكام الظالمة التي قد يصدرها المجتمع عليهم من جراء اتصالهم بالحكام، التي مرجعها في الأساس إلى الجهل بقواعد الضرر والمصلحة في الشريعة الإسلامية [6] .
ومن الموضوعات التي تضمنها فقه الشوكاني السياسي موضوع الاستقرار السياسي، ولعل اهتمامه بهذه الإشكالية كان نتيجة معايشته استفحال الصراع السياسي في البلاد الإسلامية عامة، واليمن خاصة، فحدد الشوكاني عوامل ثلاثة أساسية للاستقرار السياسي وهي: القوة العسكرية، [ ص: 211 ] والقوة الاقتصادية، والمناصب الدينية. [7] باعتبارها مصدر المشروعية للنظام الحاكم، والمنفذ الأساس لأهل العلم في إصلاح الراعي والرعية.