الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في مساقاة النخل يكون فيها البياض

                                                                                                                                                                                        وإذا ساقى نخلا يكون فيها بياض فإنه لا يخلو البياض من أن يكون كثيرا مقصودا، أو تبعا لجميع الثمرة، أو لنصيب العامل، أو يعقد المساقاة على النخل ولا يذكر البياض، أو يذكراه ويستثنيه صاحب الحائط ولا يدخله في السقاء، أو يدخلاه في السقاء على أن يكون ما خرج فيه للعامل أو لصاحبه، أو بينهما على أن البذر من عند العامل أو من عند صاحب الحائط أو من عندهما. فهذه أحد عشر وجها، فإن كان أكثر من الثلث لم يجز إدخاله في السقاء وجاز بقاؤه لربه، وإن عقدا المساقاة ولم يذكراه كان العقد صحيحا، وكان باقيا لربه، ولم يدخل في السقاء، وإن كان الثلث فأدنى جاز إدخاله في المساقاة، وجاز إبقاؤه لربه.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا عقدا المساقاة ولم يذكراه، فقال مالك في "كتاب ابن سحنون": هو لربه وإن زرعه العامل بغير علم صاحب الحائط كان عليه كراء المثل.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد: هو للعامل وحده، وهي سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاله مالك. والأول أحسن; لأن مفهوم المساقاة أن يسقي ما يحتاج إلى السقي -وهي النخل- بجزء من الثمرة، والبياض خارج عن هذا، ولو كان داخلا في [ ص: 4742 ] المساقاة بمجرد العقد لوجب أن يكون لصاحب الحائط جزء منه مثل ما له في السواد; لأن العقد يتضمن أن يكون ما يكون فيه من عمله بينهما، لا يستبد بها أحدهما دون صاحبه.

                                                                                                                                                                                        وإن شرطا إدخالهما في المساقاة جاز إذا كان ما يخرج فيه بينهما أو للعامل وحده. واستحب مالك أن يكون للعامل خاصة قال: وهو أحله، ولا يجوز أن يكون لصاحب الحائط. وأما البذر فيكون من عند العامل وحده، ولا يجوز أن يكون من عندهما، ولا من عند صاحب الحائط، وسواء كان ما يخرجه بينهما أو للعامل، فإنه لا يجوز أن يكون البذر من عند مالك الحائط بحال، قال: فإن نزل ذلك وكان البذر من عند صاحب الحائط ليكون الزرع له أو للعامل أو بينهما - كان الزرع في جميع هذه الوجوه عند ابن حبيب لمخرج البذر كائنا من كان، فإن كان العامل خرج البذر كان الزرع له وعليه كراء الأرض إذا زرعه لصاحب الحائط أو ليكون بينهما، وإن أخرجه صاحب الحائط كان الزرع له وعليه للعامل أجرة المثل.

                                                                                                                                                                                        وبناه على الشركة الفاسدة في [ ص: 4743 ] أحد القولين أن الزرع لمخرج البذر، وأرى أن يكون الزرع لمن زرع له إذا زرع على ألا يشركه فيه، فإن كان البذر من عند العامل وزرعه لرب الحائط كان له، وعليه للعامل مثل بذره وإجارة عمله; لأن صاحب الحائط اشترى من العامل بذرا شراء فاسدا، وأمره أن يجعله في أرضه ويسلمه فيها، فأشبه من استأجر على صبغ ثوب إجارة فاسدة، أو اشترى عصفرا شراء فاسدا ليصبغ له به البائع ثوبا، فذلك فوت، وللبائع أن يرجع على صاحب الثوب بمثل ما اشترى به من العصفر وإجارة المثل.

                                                                                                                                                                                        وإن كان البذر من عند صاحب الحائط ليزرعه العامل لنفسه كان للعامل، وعليه مثل البذر وكراء الأرض; لأنه اشترى البذر شراء فاسدا، وقبضه وزرعه على ملكه، وذلك فوت.

                                                                                                                                                                                        ولا خلاف فيمن اشترى من رجل بذرا واكترى أرضا، وكان ذلك صفقة واحدة وكان العقد فاسدا، أن الزرع للمشتري وعليه مثل البذر وكراء الأرض، وإن شرطا أن يكون بينهما نصفين، كان النصف لصاحب الحائط; لأنه بذره وزرعه على ملكه.

                                                                                                                                                                                        ويختلف في الأجر هل يكون للعامل; لأنه اشتراه شراء فاسدا وقبضه وأفاته بالزراعة، أو يكون لبائعه; لأنه بيع فيه تحجير وعدم التمكين، وهو بمنزلة من باع نصف هذا القمح على أن يزرع جميعه بينهما، بخلاف من اشترى جميعه; لأنه لا تحجير فيه. [ ص: 4744 ]

                                                                                                                                                                                        وإن شرطا أن يكون جميعه لصاحب الحائط لم يكن للعامل فيه شيء، ولا مقال ولا معاوضة في ذلك، وإن كان البذر من عندهما بالسواء على أن يكون الزرع بينهما كذلك كان بينهما على ما شرطا، ويتراجعان في الأجرة، فيكون للعامل أجرة المثل في عمله، وللآخر إجارة نصف أرضه. وإذا كان البذر من عندهما وشرطا أن يكون لأحدهما كان بينهما على ما شرطا.

                                                                                                                                                                                        قال ابن حبيب: وينبغي أن يكون جميعه للعامل إن شرطه لنفسه، وعليه مثل بذر صاحبه، وكراء جميع الأرض، وإن اشترطا لصاحب الحائط كان له، وعليه للعامل مثل بذره وأجرة مثله.

                                                                                                                                                                                        ويختلف فيما يكون للعامل من النخل إذا فسدت المساقاة لهذه الوجوه، فقال أصبغ: له مساقاة المثل. وقال محمد: إجارة المثل. وأرى أن يكون له الأكثر إذا كانت الزيادة من صاحب الحائط أو الأقل إن كانت الزيادة منه.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية