الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل: واختلف إذا تلبس بالصيام في السفر هل يكون بالخيار في إتمامه

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا تلبس بالصيام في السفر، هل يكون بالخيار في إتمامه؟ فمنع ذلك مالك في المدونة، وأجازه مطرف في كتاب ابن حبيب واحتج بإفطار النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بلغ الكديد.

                                                                                                                                                                                        واختلف بعد القول بمنعه; إن هو أفطر، هل عليه كفارة؟ فقال في المدونة: يكفر، وقال في المبسوط: لا كفارة عليه، وهو قول المخزومي، وابن كنانة، وقال ابن الماجشون: إن أفطر بالجماع كفر، وإن أفطر بالأكل والشرب لم يكفر; لأنه للتقوى أفطر.

                                                                                                                                                                                        والقول الأول أحسن; لقول الله سبحانه: ولا تبطلوا أعمالكم [محمد: 33] فإن أفطر كان منتهكا لحرمة يوم من رمضان وكانت عليه الكفارة إلا أن يكون متأولا، وأما فطر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن السبب كان فيه أن الناس شق عليهم الصوم وأجهدهم فأمرهم بالفطر فوقفوا عنه، فقيل له: "إنما ينظرون إلى ما فعلت. فدعا بقدح من ماء فشرب منه". [ ص: 763 ]

                                                                                                                                                                                        واختلف أيضا إذا أصبح صائما في رمضان ثم سافر، هل يكون إمساك بقية ذلك اليوم واجبا، أو مستحبا؟ فقال مالك في كتاب ابن حبيب: يستحب له ذلك من غير إيجاب، وهو ظاهر قوله في المدونة: لا كفارة عليه إن أفطر وكأنه رأى أن حلوله في السفر كحلوله في المرض، قال أشهب في مدونته في سقوط الكفارة: لأنه متأول لقول الله سبحانه: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [البقرة: 184] ، قال: يقول: فكما لو أصبحت صائما ثم أفطرت لمرض كان جائزا فكذلك ما قرن الله -عز وجل- بالمرض من السفر إذا أصبحت في الحضر ثم سافرت أفطرت، انتهى قوله.

                                                                                                                                                                                        وهذا نحو ما ذكره ابن حبيب عن مالك أن الإمساك مستحب، وأوجب المخزومي وابن كنانة عليه الإمساك والكفارة إن هو أفطر والقول الأول أحسن، وقد أبان أشهب الوجه في ذلك، ولم يختلف المذهب أنه لا يجوز له الفطر قبل أن يتلبس بالسفر.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الكفارة إن هو فعل على أربعة أقوال: فقال أشهب في [ ص: 764 ] كتاب ابن سحنون: لا كفارة عليه سافر أو لم يسافر، وقال سحنون: يكفر سافر أو لم يسافر، ثم رجع فقال: إن سافر لم يكفر، وإن لم يسافر كفر، وقال ابن القاسم وابن الماجشون في كتاب ابن حبيب: إن أفطر قبل أن يأخذ في أهبة السفر كفر سافر أو لم يسافر، وإن أكل بعد أن أخذ في أهبة السفر متأولا ثم سافر لم يكفر.

                                                                                                                                                                                        قال ابن الماجشون: وإن عرض له ما حبسه عن السفر كفر، قال الشيخ -رضي الله عنه-: الذي يقتضيه المذهب أن الكفارة مما يجبر الإنسان على إخراجها، ولا يوكل إلى أمانته، ولا إلى قوله، فمتى أفطر الصائم متعمدا غير ناس ثم ادعى أنه فعل ذلك على الجهل، وذكر الوجه الذي ظن جواز الإفطار من أجله فإنه ينظر فيما ادعى من ذلك، فإن ادعى ما لا يشبه لم يصدق، وألزم الكفارة، وإن ادعى ما يشبه صدق ولم يلزم بها.

                                                                                                                                                                                        وجميع ما وقع في هذه المسائل من الاضطراب فذلك راجع إلى ما وقع للمفتي، هذا يرى أنه أتى في دعواه بما لا يشبه فلم يصدقه، والآخر رأى خلاف ذلك فصدقه، وجميع هذا الاختلاف يحسن فيمن ظهر عليه.

                                                                                                                                                                                        وأرى أن ينظر إلى من عثر عليه في ذلك: هل مثله يجهل تلك المنزلة أم لا؟ فمن كان مثله يجهل ذلك صدق، وإلا ألزم بالكفارة، وإن جاء مستفتيا ولم [ ص: 765 ] يشهد عليه صدق فيما يدعيه من ذلك ولم يلزم الكفارة.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية