الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        4844 حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق قال أخبرنا الليث عن ابن أبي مليكة عن أبي عمرو مولى عائشة عن عائشة أنها قالت يا رسول الله إن البكر تستحي قال رضاها صمتها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق ) أي ابن قرة الهلالي أبو حفص المصري وأصله كوفي سمع من مالك والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم ، روى عنه القدماء مثل يحيى بن معين وإسحاق الكوسج وأبو عبيد وإبراهيم بن هانئ ، وهو من قدماء شيوخ البخاري ولم أر له عنه في الجامع إلا هـذا الحديث ، وقد وثقه العجلي والدارقطني ومات سنة تسع عشرة ومائتين .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حدثنا الليث ) في رواية الكشميهني " أنبأنا " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( عن أبي عمرو مولى عائشة ) في رواية ابن جريج " عن ابن أبي مليكة عن ذكوان " وسيأتي في ترك الحيل ، ويأتي في الإكراه من هذا الوجه بلفظ " عن أبي عمرو هو ذكوان " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أنها قالت : يا رسول الله إن البكر تستحي ) هكذا أورده من طريق الليث مختصرا ، ووقع في رواية ابن جريج في ترك الحيل " قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البكر تستأذن ، قلت " فذكر مثله . وفي الإكراه بلفظ " قلت : يا رسول الله ، تستأمر النساء في أبضاعهن ؟ قال : نعم . قلت : فإن البكر تستأمر فتستحي فتسكت " وفي رواية مسلم من هذا الوجه " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها ، أتستأمر أم لا ؟ قال : نعم تستأمر . قلت : فإنها تستحي " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( قال رضاها صمتها ) في رواية ابن جريج " قال سكاتها إذنها " وفي لفظ له " قال إذنها صماتها " وفي [ ص: 100 ] رواية مسلم من طريق ابن جريج أيضا " قال فذلك إذنها إذا هي سكتت " ودلت رواية البخاري على أن المراد بالجارية في رواية مسلم البكر دون الثيب . وعند مسلم أيضا من حديث ابن عباس والبكر تستأذن في نفسها ، وإذنها صماتها " وفي لفظ له " والبكر يستأذنها أبوها في نفسها " قال ابن المنذر : يستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن ، لكن لو قالت بعد العقد ما علمت أن صمتي إذن لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور ، وأبطله بعض المالكية ، وقال ابن شعبان منهم : يقال لها ذلك ثلاثا إن رضيت فاسكتي وإن كرهت فانطقي . وقال بعضهم : يطال المقام عندها لئلا تخجل فيمنعها ذلك من المسارعة . واختلفوا فيما إذا لم تتكلم بل ظهرت منها قرينة السخط أو الرضا بالتبسم مثلا أو البكاء ، فعند المالكية إن نفرت أو بكت أو قامت أو ظهر منها ما يدل على الكراهة لم تزوج ، وعند الشافعية لا أثر لشيء من ذلك في المنع إلا إن قرنت مع البكاء الصياح ونحوه ، وفرق بعضهم بين الدمع فإن كان حارا دل على المنع وإن كان باردا دل على الرضا . قال : وفي هذا الحديث إشارة إلى أن البكر التي أمر باستئذانها هـي البالغ ، إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن ، ومن يستوي سكوتها وسخطها . ونقل ابن عبد البر عن مالك أن سكوت البكر اليتيمة قبل إذنها وتفويضها لا يكون رضا منها ، بخلاف ما إذا كان بعد تقويضها إلى وليها . وخص بعض الشافعية الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجد دون غيرهما ، لأنها تستحي منهما أكثر من غيرهما .

                                                                                                                                                                                                        والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار بالنسبة لجميع الأولياء ، واختلفوا في الأب يزوج البكر البالغ بغير إذنها فقال الأوزاعي والثوري والحنفية ووافقهم أبو ثور : يشترط استئذانها ، فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصح . وقال الآخرون : يجوز للأب أن يزوجها ولو كانت بالغا بغير استئذان ، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق ، ومن حجتهم مفهوم حديث الباب لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها ، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها . واحتج بعضهم بحديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فهو إذنها قال فقيد ذلك باليتيمة فيحمل المطلق عليه ، وفيه نظر لحديث ابن عباس الذي ذكرته بلفظ " يستأذنها أبوها " فنص على ذكر الأب . وأجاب الشافعي بأن المؤامرة قد تكون عن استطابة النفس ، ويؤيده حديث ابن عمر رفعه " وأمروا النساء في بناتهن " أخرجه أبو داود ، قال الشافعي : لا خلاف أنه ليس للأم أمر ، لكنه على معنى استطابة النفس . وقال البيهقي : زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباس غير محفوظة ، قال الشافعي : زادها ابن عيينة في حديثه ، وكان ابن عمر والقاسم وسالم يزوجون الأبكار لا يستأمرونهن .

                                                                                                                                                                                                        قال البيهقي : والمحفوظ في حديث ابن عباس " البكر تستأمر " ورواه صالح بن كيسان بلفظ " واليتيمة تستأمر " وكذلك رواه أبو بردة عن أبي موسى ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فدل على أن المراد بالبكر اليتيمة . قلت : وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب ، ولو قال قائل : بل المراد باليتيمة البكر لم يدفع . وتستأمر بضم أوله يدخل فيه الأب وغيره فلا تعارض بين الروايات ، ويبقى النظر في أن الاستئمار هل هو شرط في صحة العقد أو مستحب على معنى استطابة النفس كما قال الشافعي ؟ كل من الأمرين محتمل ، وسيأتي مزيد بحث فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى . واستدل به على أن الصغيرة الثيب لا إجبار عليها لعموم كونها أحق بنفسها من وليها ، وعلى أن من زالت بكارتها بوطء ولو كان زنا لا إجبار عليها لأب ولا غيره لعموم قوله " الثيب أحق بنفسها " وقال أبو حنيفة : هي كالبكر ، وخالفه حتى صاحباه ، واحتج له بأن علة الاكتفاء بسكوت البكر هو الحياء وهو باق في هذه لأن المسألة مفروضة فيمن زالت بكارتها بوطء لا فيمن اتخذت الزنا [ ص: 101 ] ديدنا وعادة . وأجيب بأن الحديث نص على أن الحياء يتعلق بالبكر وقابلها بالثيب فدل على أن حكمهما مختلف ، وهذه ثيب لغة وشرعا بدليل أنه لو أوصى بعتق كل ثيب في ملكه دخلت إجماعا ، وأما بقاء حيائها كالبكر فممنوع لأنها تستحي من ذكر وقوع الفجور منها ، وأما ثبوت الحياء من أصل النكاح فليست فيه كالبكر التي لم تجربه قط ، والله أعلم . واستدل به لمن قال : إن للثيب أن تتزوج بغير ولي ، ولكنها لا تزوج نفسها بل تجعل أمرها إلى رجل فيزوجها ، حكاه ابن حزم عن داود ، وتعقبه بحديث عائشة أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل وهو حديث صحيح كما تقدم ، وهو يبين أن معنى قوله " أحق بنفسها من وليها " أنه لا ينفذ عليها أمره بغير إذنها ولا يجبرها ، فإذا أرادت أن تتزوج لم يجز لها إلا بإذن وليها واستدل به على أن البكر إذا أعلنت بالمنع لم يجز النكاح ، وإلى هذا أشار المصنف في الترجمة ، وإن أعلنت بالرضا فيجوز بطريق الأولى ، وشذ بعض أهل الظاهر فقال : لا يجوز أيضا وقوفا عند ظاهر قوله " وإذنها أن تسكت "




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية