الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        4985 حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم بالطلاق كما أمر الله عز وجل و قال لي إسماعيل حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق ويذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( إن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله تعالى : لا يحل لأحد بعد الأجل ) الذي يحلف عليه بالامتناع من زوجته ( إلا أن يمسك بالمعروف ، أو يعزم كما أمر الله عز وجل ) هو قول الجمهور في أن المدة إذا انقضت يخير الحالف : فإما أن يفيء ، وإما أن يطلق . وذهب الكوفيون إلى أنه إن فاء بالجماع قبل انقضاء المدة استمرت عصمته ، وإن مضت المدة وقع الطلاق بنفس مضي المدة قياسا على العدة ، لأنه لا تربص على المرأة بعد انقضائها . وتعقب بأن ظاهر القرآن التفصيل في الإيلاء بعد مضي المدة ، بخلاف العدة فإنها شرعت في الأصل للبائنة والمتوفى عنها بعد انقطاع عصمتها لبراءة الرحم فلم يبق بعد مضي المدة تفصيل وأخرج الطبري بسند صحيح عن ابن مسعود ، وبسند آخر لا بأس به عن علي " إن مضت أربعة أشهر ولم يفئ طلقت طلقة بائنة " وبسند حسن عن علي وزيد بن ثابت مثله ، وعن جماعة من التابعين من الكوفيين ومن غيرهم كابن الحنفية وقبيصة بن ذؤيب وعطاء والحسن وابن سيرين مثله ، ومن طريق سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وربيعة ومكحول والزهري والأوزاعي تطلق لكن طلقة رجعية . وأخرج سعيد بن منصور من طريق جابر بن زيد " إذا آلى فمضت أربعة أشهر طلقت بائنا ولا عدة عليها " وأخرج إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " بسند صحيح عن ابن عباس مثله ، وأخرج سعيد بن منصور من طريق مسروق " إذا مضت الأربعة بانت بطلقة وتعتد بثلاث حيض " وأخرج إسماعيل من وجه آخر عن مسروق عن ابن مسعود مثله ، وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي قلابة " أن النعمان بن بشير آلى من امرأته ، فقال ابن [ ص: 338 ] مسعود . إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت منه بتطليقة " .

                                                                                                                                                                                                        " تنبيه " :

                                                                                                                                                                                                        سقط أثر ابن عمر هذا وأثره المذكور بعد ذلك وكذا ما بعده إلى آخر الباب من رواية النسفي ، وثبت للباقين .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال لي إسماعيل ) هو ابن أبي أويس المذكور قبل ، وفي بعض الروايات " قال إسماعيل " مجردا وبه جزم بعض الحفاظ فعلم عليه علامة التعليق ، والأول المعتمد ، وهو ثابت في رواية أبي ذر وغيره .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إذا مضت أربعة أشهر يوقف ) ، في رواية الكشميهني يوقفه ( حتى يطلق ، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق ) كذا وقع من هذا الوجه مختصرا ، وهو في " الموطأ " عن مالك أخصر منه ، وأخرجه الإسماعيلي من طريق معن بن عيسى عن مالك بلفظ " أنه كان يقول : أيما رجل آلى من امرأته فإذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق أو يفيء ، ولا يقع عليه طلاق إذا مضت حتى يوقف " وكذا أخرجه الشافعي عن مالك وزاد " فإما أن يطلق وإما أن يفيء " وهذا تفسير للآية من ابن عمر ، وتفسير الصحابة في مثل هذا له حكم الرفع عند الشيخين البخاري ومسلم كما نقله الحاكم ، فيكون فيه ترجيح لمن قال يوقف .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ويذكر ذلك ) أي الإيقاف ( عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ) أما قول عثمان فوصله الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريق طاوس " أن عثمان بن عفان كان يوقف المولي ، فإما أن يفيء وإما أن يطلق " وفي سماع طاوس من عثمان نظر ، لكن قد أخرجه إسماعيل القاضي في " الأحكام " من وجه آخر منقطع عن عثمان " أنه كان لا يرى الإيلاء شيئا وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف " ومن طريق سعيد بن جبير عن عمر نحوه ، وهذا منقطع أيضا ، والطريقان عن عثمان يعضد أحدهما الآخر . وجاء عن عثمان خلافه : فأخرج عبد الرزاق والدارقطني من طريق عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عثمان وزيد بن ثابت " إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة " وقد سئل أحمد عن ذلك فرجح رواية طاوس . وأما قول علي فوصله الشافعي وأبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمرو بن سلمة " أن عليا وقف المولي " وسنده صحيح . وأخرج مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي نحو قول ابن عمر " إذا مضت الأربعة أشهر لم يقع عليه الطلاق حتى يوقف ، فإما أن يطلق وإما أن يفيء " وهذا منقطع يعتضد بالذي قبله . وأخرج سعيد بن منصور من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى " شهدت عليا أوقف رجلا عند الأربعة بالرحبة إما أن يفيء وإما أن يطلق " وسنده صحيح أيضا . وأخرج إسماعيل القاضي من وجه آخر عن علي نحوه وزاد في آخره " ويجبر على ذلك " . وأما قول أبي الدرداء فوصله ابن أبي شيبة وإسماعيل القاضي من طريق سعيد بن المسيب " أن أبا الدرداء قال يوقف في الإيلاء عند انقضاء الأربعة ، فأما أن يطلق وإما أن يفيء " وسنده صحيح إن ثبت سماع سعيد بن المسيب من أبي الدرداء . وأما قول عائشة فأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " أن أبا الدرداء وعائشة قالا " فذكر مثله ، وهذا منقطع . وأخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح عن عائشة بلفظ " أنها كانت لا ترى الإيلاء شيئا حتى يوقف " وللشافعي عنها نحوه وسنده صحيح أيضا . وأما الرواية بذلك عن اثني عشر رجلا من الصحابة فأخرجها البخاري في التاريخ من طريق عبد ربه بن سعيد " عن ثابت بن عبيد مولى زيد بن ثابت عن اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : الإيلاء لا يكون طلاقا حتى يوقف " وأخرجه الشافعي من هذا الوجه فقال " بضعة عشر " وأخرج إسماعيل القاضي من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري " عن سليمان بن يسار قال : أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : الإيلاء لا يكون طلاقا حتى يوقف " وأخرج الدارقطني من طريق " سهل بن أبي صالح عن أبيه أنه قال [ ص: 339 ] سألت اثني عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي ، فقالوا : ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف ، فإن فاء وإلا طلق وأخرج إسماعيل من وجه آخر عن يحيى بن سعيد " عن سليمان بن يسار قال : أدركنا الناس يقفون الإيلاء إذا مضت الأربعة " وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وسائر أصحاب الحديث ، إلا أن للمالكية والشافعية بعد ذلك تفاريع يطول شرحها : منها أن الجمهور ذهبوا إلى أن الطلاق يكون فيه رجعيا ، لكن قال مالك لا تصح رجعته إلا إن جامع في العدة . وقال الشافعي : ظاهر كتاب الله تعالى على أن له أربعة أشهر ، ومن كانت له أربعة أشهر أجلا فلا سبيل عليه فيها حتى تنقضي ، فإذا انقضت فعليه أحد أمرين : إما أن يفيء وإما أن يطلق ، فلهذا قلنا لا يلزمه الطلاق بمجرد مضي المدة حتى يحدث رجوعا أو طلاقا ، ثم رجح قول الوقف بأن أكثر الصحابة قال به ، والترجيح قد يقع بالأكثر مع موافقة ظاهر القرآن . ونقل ابن المنذر عن بعض الأئمة قال لم يجد في شيء من الأدلة أن العزيمة على الطلاق تكون طلاقا ، ولو جاز لكان العزم على الفيء يكون فيئا ولا قائل به ، وكذلك ليس في شيء من اللغة أن اليمين التي لا ينوي بها الطلاق تقتضي طلاقا . وقال غيره : العطف على الأربعة أشهر بالفاء يدل على أن التخيير بعد مضي المدة ، والذي يتبادر من لفظ التربص أن المراد به المدة المضروبة ليقع التخيير بعدها . وقال غيره : جعل الله الفيء والطلاق معلقين بفعل المولي بعد المدة ، وهو من قوله تعالى فإن فاءوا وإن عزموا فلا يتجه قول من قال إن الطلاق يقع بمجرد مضي المدة . والله أعلم




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية