الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
6036 - وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال : استأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه ، عالية أصواتهن ، فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب ، فدخل عمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك ، فقال : أضحك الله سنك يا رسول الله ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي ، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب ) قال عمر ؟ يا عدوات أنفسهن ! أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقلن : نعم ؟ أنت أفظ وأغلظ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إيه يا ابن الخطاب ! والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك متفق عليه .

وقال الحميدي : زاد البرقاني بعد قوله : يا رسول الله : ما أضحكك .

التالي السابق


6036 - ( وعن سعد بن أبي وقاص قال : استأذن عمر بن الخطاب ، على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نسوة ) ، أي جماعة من النساء ( من قريش ) ، قال القسطلاني : هن عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش وغيرهن . وقال العسقلاني ، أي : نسوة من أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكن معهن غيرهن لكن قرينة قوله : ( يكلمنه ويستكثرنه ) ، تؤيد الأول أي يستكثرنه في الكلام ، ولا يراعين مقام الاحتشام . وقال النووي ، أي : يطلبن منه النفقات الكثيرة ، وفي رواية : يسألنه ويستكثرنه ( عالية ) : بالنصب على الحال . وقال السيوطي : أو بالرفع على الوصف اه . وفي رواية : رافعات ( أصواتهن ) ، بالرفع على الفاعلية . وقال القاضي عياض : يحتمل أن هذا قبل النهي عن رفع الصوت فوق صوته - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن علو أصواتهن إنما كان لاجتماعهن في الصوت ، لا أن كلام كل واحد بانفراده أعلى من صوته - صلى الله عليه وسلم - . أقول : ليس في الكلام دليل على أن رفع أصواتهن كان فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرد الإشكال بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية . بل المراد أنهن في تلك الحالة على خلاف عادتهن من الخفض ورفعن أصواتهن في كلامهن معه - صلى الله عليه وسلم - اعتمادا على حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - . ( فلما استأذن عمر ) :

[ ص: 3894 ] والحال أنه من الأجانب بالنسبة إلى أكثرهن ، لاسيما وهو غيور غضوب غالب عليه الصفة الجلالية ( قمن ) أي : من مكانهن ( فبادرن بالحجاب ) ، أي سارعن إلى حجابهن على مقتضى آدابهن ( فدخل عمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك ) ، أي يتبسم . ومن الغريب أن عمر مع غلبة قهره وشدة سطوته كان مظهرا لبسطه - صلى الله عليه وسلم - ( فقال ) أي : عمر كما في رواية ( أضحك الله سنك ) : وفي رواية : يا رسول الله ! أي أدام الله فرجك الموجب لبروز سنك وظهور نورك ، لكن لا بد له من سبب وظهور أمر عجيب ، فأطلعني عليه وشرفني بالإشارة إليه ( قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي ) ، أي في حالة غريبة ومقالة عجيبة ( فلما سمعن صوتك ) أي : بالإذن ( ابتدرن الحجاب ) . أي بالانتقال من مكانهن وإخفاء حالهن وشأنهن خوفا منك وهيبة لك ( قال عمر ) أي : خطابا لهن ( يا عدوات أنفسهن ! أتهبنني ) : بفتح الهاء ، يقال : هبت الرجل بكسر الهاء إذا وقرته وعظمته من الهيبة أي أتوقرنني ( ولا تهبن ) أي : ولا تعظمن ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلن : نعم ) ، هذا غير راجع إلى مجموع قول عمر بل إلى قوله : أتوقرنني فقط ، وإلا فيشكل كما لا يخفى ، ولا يعبد أن يكون نعم تقريرا وتأكيدا ومقدما على قوله : ( أنت أفظ وأغلظ ) ، أي أنت كثير الفظ أي سيء الكلام وكثير الغلظ أي : شديد القلب بخلافه - صلى الله عليه وسلم - فإنه حسن الخلق كما أخبر الله سبحانه بقوله : وإنك لعلى خلق عظيم وقال : ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - على ما رواه ابن ماجه عن ابن عمرو مرفوعا : ( خياركم خياركم لنسائهم ) . قال الطيبي : لم يردن بذلك إثبات مزيد الفظاظة والغلظة لعمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان حليما مواسيا رقيق القلب في الغاية ، بل المبالغة في فظاظة عمر وغلظه مطلقا اه .

وخلاصته أن فيك زيادة فظاظة وغلظة بالقياس إلى غيرك لا بالقياس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان رفيقا حليما جدا ، لكن يشكل هذا بما ذكره البخاري في رواية أخرى في باب التبسم من كتاب الأدب فقلن : إنك أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويمكن دفعه بأن يجعل من باب العسل أحلى من الخل ، والشتاء أبرد من الصيف ، فيرجع المعنى إلى أن كلا منهما في حاله على أعلى مرتبة كماله . ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إيه ) : بكسر الهمز والهاء منونا وقد يترك تنوينه أي حدث حديثا ولا تلتفت إلى جوابهن ( يا ابن الخطاب ) وفي رواية يا عمر وقيل : هو اسم فعل يطلب به الزيادة أي استزد على ما أنت عليه من التصلب ويؤيده قوله : ( والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا ) أي : ذاهبا طريقا واسعا ( قط إلا سلك غير فجك ) . ففيه منقبة عظيمة لعمر إلا أن ذلك لا يقتضي وجوب العصمة إذ لا يمنع ذلك من وسوسته الموجبة لغفلته . قال التوربشتي : إيه اسم سمي به الفعل لأنه معناه الأمر تقول للرجل : إذا استزدته من حديث أو عمل . إيه بكسر الهاء ، فإن وصلت نونت ، وقلت : إيه حديثا ، وإذا أسكته وكففته . قلت : إيها عنا ومن حقه في هذا الحديث أن يكون إيها أي كف يا ابن الخطاب عن هذا الحديث . ورواه البخاري في كتابه مجرورا منونا والصواب إيها . وروى مسلم هذا الحديث في ( جامعه ) ، وليس لهذه الكلمة في روايته ذكر . أقول : إذا صحت الرواية وطابقت الدراية على ما قدمناه من تصحيح معناه ، فلا معنى للتخطئة في مبناه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب .

وقال الطيبي : معنى قول عمر أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتوقرنني ولا توقرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . في ( شرح السنة ) : هو من قولهم هبت الرجل إذا وقرته وعظمته ، يقال : هب الناس يهابوك أي وقرهم يوقروك اه . كلامه ولا شك أن الأمر بتوقير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطلوب لذاته تجب الاستزادة منه ، فكأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إيه ) استزادة منه في طلب توقيره وتعظيم جانبه ، ولذلك عقبه بقوله : ( والذي نفسي بيده ) إلخ . فإنه يدل على استرضاء ليس بعده استرضاء إحمادا منه - صلى الله عليه وسلم - لفعاله كلها ، لا سيما هذه الفعلة .

[ ص: 3895 ] قال التوربشتي في قوله : ما لقيك الشيطان سالكا ، تنبيه على صلابته في الدين واستمرار حاله على الجد الصرف ، والحق المحض ، حتى كان بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالسيف الصارم والحسام القاطع ، إن أمضاه مضى ، وإن كفه كف ، فلم يكن له على الشيطان سلطان إلا من قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان هو كالوازع بين يدي الملك ، فلهذا كان الشيطان ينحرف عن الفج الذي سلكه . ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة مهداة إلى العالمين ، مأمورا بالعفو عن المذنبين ، معنيا بالصفح عن الجاهلين لم يكن ليواجههم فيما لا يحمد من فعل مكروه أو سوء أدب بالفظاظة والغلاظة والزجر البليغ ، إذ لا يتصور الصفح والعفو مع تلك الخلال . فلهذا تسامح هو فيها واستحسن إشعارهن الهيبة من عمر - رضي الله عنه .

قال النووي : هذا الحديث محمول على ظاهره ، وأن الشيطان متى رآه سالكا فجا هرب لرهبته من عمر - رضي الله عنه - وفارق ذلك الفج لشدة بأسه . قال القاضي عياض : ويحتمل أنه ضرب مثلا بالشيطان وإغوائه وأن عمر - رضي الله عنه - فارق سبيل الشيطان ، وسلك طريق السداد ، وخالف ما يأمره به . والصحيح الأول ( متفق عليه ) . وكذا أخرجه أحمد وأخرجه النسائي وأبو حاتم ولفظهما : فلما سمعن صوت عمر انقمعن وسكن أي : ذللن وارتدعن ، فقال عمر : يا عدوات أنفسهن ، الحديث . من غير ذكر جوابهن . ( وقال الحميدي ) أي : في جامعه بين الصحيحين ( زاد البرقاني ) : بفتح الموحدة وقد تكسر منسوب إلى برقان قرية من قرى خوارزم ( بعد قول : يا رسول الله ! ما أضحكك ) . اهـ . فكأنه حذفه بعض الرواة نسيانا أو اختصارا لظهوره ، أو هذا من زيادة بعض الثقات أو من إدراج بعض الرواة ، والمعنى عليه كما أشرنا في شرح الحديث إليه .




الخدمات العلمية