الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2213 - وعن أبي بن كعب قال : كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه ، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ فحسن شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فرقا فقال لي يا أبي أرسل إلي اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم - عليه السلام - رواه مسلم

التالي السابق


2213 - ( وعن أبي بن كعب قال : كنت في المسجد فدخل رجل يصلي ) استئناف ، أو حال ( فقرأ قراءة ) : أي في صلاته ، أو بعدها ( أنكرتها عليه ) : أي بالجنان ، أو باللسان ( ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه ) : أي فأنكرتها عليه أيضا ( فلما قضينا الصلاة ) دل على أن أبيا أيضا كان في الصلاة ، والظاهر أنها صلاة الضحى ، أو نحوها من النوافل ، ويمكن أن يكون التقدير فلما قضينا جميعا الصلاة المفروضة التي حضرنا لأجلها ، ويؤيد المعنى الأول ما في نسخة ( فلما قضينا الصلاة ) : أي فرغنا عنها ( دخلنا جميعا ) : أي كلنا أو مجتمعون ( على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : أي في موضعه من المسجد لصلاته ، أو في حجرة من حجراته ( فقلت : إن هذا لما دخل المسجد قرأ قراءة أنكرتها عليه ، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه ) : أي أنكرتها عليه كما هو الظاهر من السياق ( فأمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرآ ) بلفظ التثنية : أي كلاهما ( فحسن شأنهما ، فسقط في نفسي من التكذيب ) قال السيد جمال الدين : في أكثر نسخ المشكاة بصيغة المجهول ، ولكن في سماعنا في رواية مسلم على بناء المعروف ، قلت : يؤيد الأول ما نقل شراح المصابيح كابن الملك وغيره : أي بصيغة المجهول وهو الصحيح في المعنى كما سيظهر لك فتكون مطابقة بين الرواية والدراية ، وذهب ابن حجر إلى الثاني حيث قال : أي وقع في خاطري أمر عظيم لا أقدر [ ص: 1510 ] على وصفه ، وحذف الفاعل المعلوم جائز ، وكنى عن خطر المستعمل في المعاني بسقط المستعمل في الأجسام إشعارا بشدة هذا الخاطر وثقله اهـ . ولو زيد وقيل لسقوط هذا الخاطر من غير اختيار ولسقط ؛ لأنه بدون اعتبار لكان حسنا عند أولي الأبصار ، قال الطيبي : في بعض النسخ سقط بصيغة المجهول : أي ندم فتأمل فإنه ليس بشيء اهـ . فكأنه وهم أن قوله من التكذيب يأباه فتدبر ( ولا إذ كنت في الجاهلية ) قال الطيبي : يعني وقع في خاطري من تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لتحسينه بشأنهما تكذيبا أكثر تكذيبي إياه قبل الإسلام ؛ لأنه كان قبل الإسلام غافلا ، أو مشككا ، وإنما استعظم هذه الحالة ؛ لأن الشك الذي داخله في أمر الدين إنما ورد على مورد اليقين ، وقيل : فاعل سقط محذوف أي : وقع في نفسي من التكذيب ما لم أقدر على وصفه ولم أعهد بمثله ولا وجدت مثله إذ كنت في الجاهلية ، وكان أبي من أكابر الصحابة ، وكان ما وقع له نزغة من نزغات الشيطان ، فلما ناله بركة يد النبي - صلى الله عليه وسلم - زال عند الغفلة والإنكار وصار في مقام الحضور والمشاهدة اهـ . وتبعه في هذا ابن الملك وقال : وتبعته بعد المعرفة آثم وآثم أي أكثر إثما ، وحاصل كلامهما - نعوذ بالله - تكفيره - رضي الله عنه - وهذه نزغة جسيمة وجرأة عظيمة ، فإن عبارة آحاد الناس إذا احتملت تسعة وتسعين وجها من الحمل على الكفر ووجها واحدا على خلافه لا يحل أن يحكم بارتداده فضلا عما ورد على لسان من هو أفضل الصحابة عموما ومن أكملهم في أمر القراءة خصوصا ، فنقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق : إن لفظ سقط جاء في قوله تعالى : ولما سقط في أيديهم بالقراءة المتواترة على الضم ، فتحمل رواية الحديث عليه ؛ مطابقة بينهما ولا شك أن قوله تعالى في أيديهم وقوله في الحديث " في نفسي " بمعنى واحد ؛ لأنه كثيرا ما يعبر عن النفس بالأيدي ، إلا أن البلاغة القرآنية والفصاحة الفرقانية بلغت غاية العليا فعبرت بالعبارة الحسنى ، قال القاضي : هو كناية عن اشتداد ندمهم ، قال : المتحسر يعض يده غما ; فتصير يده مسقوطا فيها ، وقرئ : سقط على بناء الفاعل بمعنى وقع العض فيها ، وقيل : سقط الندم في أنفسهم اهـ . وهو غاية المنى ، وفي القاموس سقط : وقع ، وبالضم : ذل وندم وتحير ، فعلى رواية الضم معناه : ندمت من تكذيبي ، وإنكار قراءتها ندامة ما ندمت مثلها لا في الإسلام ولا إذ كنت في الجاهلية ، وعلى رواية الفتح معناه : أوقع الندم في نفسي من أجل تكذيب قراءتهما ندما لم أندم مثله في حال الإسلام ولا حين كنت في أمور الجاهلية ; لأنه كان من العقلاء ، والعاقل لا يكذب إلا ما ينافي العقل أو النقل ، وقراءتهما ما كانت منافية لأحد الأمرين إذ لا يلزم من تحسين القراءتين فساد إحداهما عقلا ونقلا سيما ، وأخبر الصادق : أنهما صحيحتان ، فكيف يصلح مثل هذا أن يكون سببا للشك في النبوة الثابتة ، لا بالمعجزات الظاهرة ، والآيات الباهرة ، والأدلة القاطعة ، والبراهين اللامعة من الحقائق العقلية والدقائق النقلية ، فضلا عن التكذيب ممن هو موصوف بجمال التهذيب وكمال التأديب ! ثم رأيت ابن حجر وافقني وقال : أي من أجل تكذيبي لكل من الرجلين في قراءتهما . وقد تبين أن ما قرأه من القرآن ، ومن المعلوم أن التكذيب بالقرآن كفر ، فلذا عظم علي الأمر الآن ما لم يعظم علي غيره في زمن مضى . " ولا إذ كنت " أي : ولا في الزمن الذي كنت في الجاهلية ؛ لأن ما يفعل فيها مرفوع بالإسلام بخلاف ما يفعل بعدها لا سيما إن كان فيه تكذيب بالقرآن ، فعلم أن الواو للعطف ، وأن المعطوف عليه منفي ، وأن لا لتأكيد ذلك النفي كهي في " ولا غربية " وهي أسد في العربية من جعل ، " ولا إذ كنت " صفة لمصدر محذوف ؛ لأن واو العطف مانعة ، ويجوز كونها للحال لكنه بعيد متكلف اهـ . وفيه أن كلامه موهم بأنه وقع منه تكذيب بالقرآن وليس كذلك ؛ لأن القراءة إذا لم تكن ثابتة بالتواتر فإنكارها لم يكن تكذيبا للقرآن ، فكأنه أراد صورة التكذيب لا حقيقته ، مع أنه خطور ليس فيه محظور ؛ لأن صاحبه في وقوعه معذور ، وهذا معنى قول النووي : معناه وسوس إلي الشيطان تكذيبا أشد مما كنت عليه في الجاهلية ؛ لأنه كان في الجاهلية غافلا ، أو متشككا ، وحينئذ دخل الشك في اليقين اهـ . وكأنه أراد بدخول الشك دخولا على وجه الوسوسة ليلائم أول كلامه ، فإنه لا يلزم من الوسوسة دخول الشك على وجه الحصول والاستقرار ، وبه يندفع إدراجه مع بقية الشراح في الاعتراض كما فعله ابن حجر فتأمل وتدبر ( فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد غشيني ) : أي أتاني من آثار الخجالة وعلامات الندامة ، أو لما علم ما في خاطري بالمعجزة من حصول الوسوسة ( ضرب صدري ) إما للتأديب ، وإما [ ص: 1511 ] لإخراج الوسوسة ببركة يده ، وإما للتلطف ، وإما لإرادة الحفظ ، أو لتذكر القضية وعدم العود إلى مثلها ( ففضت ) بكسر الفاء الثانية ( عرقا ) تمييز : أي فجرى عرقي من جميع بدني استحياء منه - عليه الصلاة والسلام - وندامة على ما فعله ، وفناء عن نفسه وإغماء عن حاله ( وكأنما ) وفى نسخة فكأنما ( أنظر إلى الله فرقا ) : أي خوفا قيل : تمييز ، والأظهر أن نصبه على المفعول له : أي فكأني لأجل الخوف على ما فعلت أحضرت بين يدي الله للحكم في بما أراد ( فقال لي يا أبي ) : أي تسكينا وتبيينا ( أرسل إلي ) على بناء المجهول : أي أرسل الله جبريل ، وفى نسخة على بناء المعلوم : أي أرسل الله إلي ( أن اقرأ القرآن ) بصيغة الأمر وفى نسخة بصيغة المعلوم المتكلم ، قال الطيبي : أن مفسرة ، وجوز كونها مصدرية على مذهب سيبويه وإن كانت داخلة على الأمر ( على حرف ) : أي قراءة واحدة ( فرددت ) : أي جبريل ( إليه ) أو فراجعت إلى الله تعالى ( أن هون ) : أي سهل ويسر ( على أمتي ) أن مصدرية ، ولا يضر كون مدخولها أمرا ؛ لأنها تدخل عليه عند سيبويه ، أو مفسرة لما في رددت من معنى القول ، يقال رد إليه إذا رجع ، وأما قول ابن حجر : أي فقلت له قولا متكررا ، فلا دلالة عليه رواية ولا دراية ( فرد إلي الثانية ) ماض مجهول ، أو معلوم رد الله إلي الرسالة الثانية ( اقرأه ) بصيغة الأمر ، أو المتكلم وهو بدون أن كما في النسخ المصححة خلافا لما توهمه عبارة ابن حجر ، قال الطيبي : دل على أن قوله رد ورد إما على سبيل المشاكلة وإما أنه كان مسبوقا لسؤاله - عليه الصلاة والسلام - عن كيفية القراءة ، والمراد بالرد رجع الكلام ورد الجواب ( على حرفين ) : أي نوعين ( فرددت إليه أن هون على أمتي ) : أي بزيادة التهوين ( فرد ) بالوجهين ( إلي الثالثة اقرأه ) بالضبطين ( على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتكها ) : أي لك بمقابلة كل دفعة رجعت إلي ورددتكها بمعنى أرجعتك إليها بحيث ما هونت على أمتك من أول الأمر ( مسألة تسألنيها ) قال ابن الملك : هذه الجملة صفة مؤكدة يعني مسألة مستجابة قطعا ، وقال الطيبي : أي ينبغي أن تسألنيها فأجيبك إليها ( فقلت اللهم اغفر لأمتي ) لعل المراد بهم أهل الكبائر ( اللهم اغفر لأمتي ) : أي لأهل الصغائر ، وعكس ابن حجر وقال شارح : لما انقسم المحتاج إلى المغفرة من أمته إلى مفرط ومفرط في استغفر - صلى الله عليه وسلم - للمقتصد المفرط في الطاعة ، وأخرى للظالم في المعصية ، أو الأولى للخواص ; لأن كل أحد لا يخلو عن تقصير ما في حقه تعالى ، كما قال : ( كلا لما يقض ما أمره ) والثانية للعوام ، أو الأولى في الدنيا والأخرى في العقبى ( وأخرت الثالثة ) : أي المسألة الثالثة وهي الشفاعة الكبرى ( ليوم ) : أي لأجل يوم ، أو إلى يوم ( يرغب ) : أي يحتاج ( إلي ) بتشديد الياء ( الخلق ) : أي المكلفون ( كلهم ) حين يقولون نفسي نفسي ( حتى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ) بالرفع معطوف على الخلق ، وفيه دليل على رفعة إبراهيم على سائر الأنبياء وتفضيل نبينا على الكل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية