الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد ، قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : سمعت الحارث بن أسد ، يقول ، ونعت المختصين بالمعرفة والإيمان ، فقال : " هم الذين جعلهم الحق أهلا لتوحيده وإفراد تجريده [ ص: 106 ] والذابين عن ادعاء إدراك تحديده ، مصطنعين لنفسه ، مصنوعين على عينه ، ألقى عليهم محبة منه له ، ( واصطنعتك لنفسي ) ، ( ولتصنع على عيني ) ، ( وألقيت عليك محبة مني ) فأخذ أوصاف من صنعه لنفسه والمصنوع على عينه والملقى عليه محبة منه له ، أن لا يستقر لهم قدم علم على مكان ، ولا موافقة كفاء على استقرارهم ، ولا مناظرة عزم على تنفيذهم ، هم الذين جرت بهم المعرفة حيث جرى بهم العلم إلى نهاية غاية ، خنست العقول وبادت الأذهان ، وانحسرت المعارف ، وانقرضت الدهور ، وتاهت الحيرة في الحيرة عند نعت أول قدم نقلت لمرافقة وصف محل لمحة مما جرى عليهم العلوم التي جعلها لهم به له ، هيهات ذلك له ما له به عنده له ، فأين تذهبون ؟ أما سمعت طبه لما أبداه ، وكشفه ما رواه ، واختصاصه لسر الوحي لمن اصطفاه ؟ ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى ) ، شهد له أنه عبده وحده ، لم يجر عليه استعبادا لغيره يخفي ميل همة ، ولا إلمام شهوة ، ولا محادثة نظرة ، ولا معارضة خطرة ، ولا سبق حق بلفظه ، لا يسبق أهل الحق الحق بنطق ولا رؤية حظ بلمحة ، أوحى إليه حينئذ ما أوحى ، هيأه لفهم ما أولاه بما به تولاه واجتباه ، فحمل حينئذ ما حمل ، أوحى إليه حينئذ ما أوحى بالأفق الأعلى ، ضاقت الأماكن ، وخنست المصنوعات عن أن تجري فيها أو عليها ، أوحى ما أوحى إلا بالأفق الأعلى ( إذ يغشى السدرة ما يغشى ) انظر نظر من خلا في نظره من عين منظوره إلى السدرة حيث غشاها ( ما يغشى ) فثبتت لما غشاها ، وانظر إلى الجبل حيث تجلى له ( جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك ) أن أعود لمسألتك الرؤيا بعد هذا المقام ، وإلى إكثاره ما فرط من سؤاله ، وإلى أن العلم لو صادف حقيقة الرسم لا يليق به الكتم ، وانظر إلى إخباره عن حبيبه ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) والعند هاهنا لا ينتهي مكانا ، إنما ينتهي وقت كشف علم لوقت ، وانظر إلى فضل الوقتين ومختلف المكانين ، وفرق ما بين المنزلتين في العلو والدنو ، وكذا فضلت عقول المؤمنين من العارفين ، فمنها من يطيق خطاب المناجاة مع علم قرب من ناجاه وأدناه ، فلا يستره في الدنو علم الدنو ، ولا في العلو علم [ ص: 107 ] العلو ، ومنها من لا يطيق ذلك ، فيجعل الأسباب هي المؤدية إليهم الفهم ، وبها يستدرك فهم الخطاب ، فيكون منه الجواب أن لا يقف عند قوله : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) ، وهذه أماكن يضيق بسط العلم فيها إلا عند المفاوضة لأهل المحاضرة ، وفي الاشتغال بعلم مسالك الطرقات المؤدية إلى علوم أهل الخاصة الذين خلوا من خلواتهم ، وبرئوا من إرادتهم ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، عصفت بهم رياح الفطنة ، فأوردتهم على بحار الحكمة ، فاستنبطوا صفو ماء الحياة ، لا يحذرون غائلة ، ولا يتوقعون نازلة ، ولا يشرهون إلى طلب بلوغ غاية ، بل الغايات لهم بدايات ، هم الذين ظهروا في باطن الخلق ، وبطنوا في ظاهره ، أمناء على وحيه ، حافظون لسره ، نافذون لأمره ، قائلون بحقه ، عاملون بطاعته : ( يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) جرت معاملتهم في مبادئ أمورهم بحسن الأدب فيما ألزمهم القيام به من حقوقه ، فلم تبق عندهم نصيحة إلا بذلوها ، ولا قربة إلا وصلوها ، سمحت نفوسهم ببذل المهج عند أول حق من حقوقه في طلب الوسيلة إليه ، فبادرت غير مبقية ولا مستبقية ، بل نظرت إلى أن الذي عليها في حين بذلها أكثر بحالها مما بذلت ، لوائح الحق إليها مشيرة ، وعلوم الحق لديها غزيرة ، لا توقفهم لائمة عند نازلة ، ولا تثبطهم رهبة عند فادحة ، ولا تبعثهم رغبة عند أخذ أهبة بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " .

              أخبرنا جعفر بن محمد بن نصر - في كتابه - وحدثني عنه عثمان ، قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : سئل الحارث بن أسد وقيل له : رحمك الله ، ما علامة الأنس بالله ؟ قال : " التوحش من الخلق ، قيل له : فما علامة التوحش من الخلق ؟ قال : الفرار إلى مواطن الخلوات ، والتفرد بعذوبة الذكر ، فعلى قدر ما يدخل القلب من الأنس بذكر الله يخرج التوحش ، كما قال بعض الحكماء في مناجاته : يا من آنسني بذكره ، وأوحشني من خلقه ، وكان عند مسرتي ارحم عبرتي ، وفي قول الله تعالى لداود - عليه السلام - : كن بي مستأنسا ، ومن [ ص: 108 ] سواي مستوحشا " . وقيل لبعض المتعبدين : ما فعل فلان ؟ قال : أنس فتوحش ، وقيل لرابعة : بم نلت هذه المنزلة ؟ قالت : بتركي ما لا يعنيني ، وأنسي بمن لم يزل يواليني ، وقال ذو النون في بعض كلامه : يا أنيس كل منفرد بذكرك ، وجليس كل متوحد بحبك ، وقال عبد الواحد بن زيد لراهب : يا راهب لقد تعجلت الوحدة ! فقال الراهب : يا فتى ، لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك ، الوحدة رأس العبادة ما آنستها الفكرة ، قال : يا راهب ، ما أقل ما يجد العبد في الوحدة ؟ قال : الراحة من مداراة الناس ، والسلامة من شرهم ، قال : يا راهب ، متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله ؟ قال : إذا صفا الود وخلصت المعاملة ، قال : يا عبد الله ، متى يصفو الود ؟ قال : إذا اجتمع الهم فصار في الطاعة ، قلت : متى تخلص المعاملة ؟ قال : إذا اجتمع الهم فصار هما واحدا ، وقال بعض الحكماء : عجبا للخلائق كيف أرادوا بك بدلا ؟ وعجبا للقلوب كيف استأنست بسواك عنك ؟ اللهم آنست الآنسين من أوليائك ، وخصصتهم بكفاية المتوكلين عليك ، تشاهدهم في ضمائرهم ، وتطلع عليهم في سرائرهم ، وستري عندك مكشوف ، وأنا إليك ملهوف ، فإذا أوحشتني العزلة آنسني ذكرك ، وإذا كثرت علي الهموم رجعت إلى الاستجارة بك ، يا رب العالمين ، وقال إبراهيم بن أدهم : جئت من أنس الرحمن ، وكما قال بعض الحكماء : لو أن معي أنسا لتوحشت .

              قيل : رحمك الله ، فما علامة صحة الأنس بالله ؟ قال : ضيق الصدر من معاشرة الخلق والتبرم بهم ، واختيار القلب عذوبة الذكر ، قيل : رحمك الله ، فما علامته في ظاهره ؟ قال : منفرد في جماعة ، ومستجمع في خلوة ، وغريب في حضر ، وحاضر في سفر ، وشاهد في غيبة ، وغائب في حضور ، قيل : اشرح عن وصف هذا ، ما معنى : منفرد في جماعة ، ومستجمع في خلوة ؟ قال : منفرد بالذكر مشغول بالفكر ، لما استولى على القلب والهم من الشغل ، وطيب عذوبة الذكر وحلاوته ، وهو منفرد فيما هو فيه عن الجماعة ، وهو شاهد معهم ببدنه ، كما روي عن علي بن أبي طالب ، في حديث كميل بن زياد ، فقال : " هجم بهم العلم عن حقيقة الأمر ، فباشروا [ ص: 109 ] روح اليقين فاستلانوا ما استوعده المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدان قلوبها معلقة بالمحل الأعلى ، وبأعلى العلى عند الملك العالي ، " فهذه صفة المنفرد في جماعة ، قيل : فما المستجمع في خلوة ؟ قال : مستجمع له بهمة ، قد جمع الهموم فصيرها هما واحدا في قلبه ، فاستجمعت له الهموم في مشاهدة الاعتبار وحسن الفكر في نفاذ القدرة ، فهو مستجمع لله بعقله وقلبه وهمه ووهمه كله ، وكل جوارحه مستجمعة منتصبة لدوام الذكر إلى وجود لحوق البصيرة ، وعوض الفطنة ، وسعة المعونة ، وليس شيء منه متفرقا ولا وهم معطلا ، وهذه صفة المستجمع في انفراده ، قيل : فما معنى : غائب في حضور ؟ قال : غائب بوهمه ، حاضر بقلبه ، فمعنى غائب أي غائب عن أبصار الناظرين ، حاضر بقلبه في مراعاة العارفين " .

              أخبرنا جعفر بن محمد - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم ، قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : سمعت الحارث بن أسد ، يقول : " المحاسبة والموازنة في أربعة مواطن فيما بين الإيمان والكفر ، وفيما بين الصدق والكذب ، وبين التوحيد والشرك ، قال : وسمعت الحارث ، يقول : الذي يبعث العبد على التوبة ترك الإصرار ، والذي يبعثه على ترك الإصرار ملازمة الخوف ، وقال الحارث : العبودية أن لا ترى لنفسك ملكا ، وتعلم أنك لا تملك لنفسك ضرا ولا نفعا ، والتسليم هو الثبوت عند نزول البلاء من غير تغير منه ظاهرا وباطنا ، والرجاء هو الطمع في فضل الله ورحمته ، وأقهر الناس لنفسه من رضي بالمقدور ، وأكمل العاقلين من أقر بالعجز أنه لا يبلغ كنه معرفته ، والخلق كلهم معذورون في العقل مأخوذون في الحكم ، ولكل شيء جوهر ، وجوهر الإنسان العقل ، وجوهر العقل الصبر ، والعمل بحركات القلوب في مطالعات الغيوب أشرف من العمل بالجوارح " . قال الشيخ رحمه الله تعالى : قد أتينا على طرف من كلام الحارث بن أسد مجتزيا من فنون تصانيفه وأنواع أقواله وأحواله بما ذكرنا ؛ إذ هو البحر العميق ، ورواياته عن المحدثين المشهورين في تصانيفه مدونة اقتصرنا من رواياته على ما : [ ص: 110 ] .

              حدثناه محمد بن عبد الله بن سعيد ، ثنا أحمد بن القاسم الفرائضي ، ثنا الحارث بن أسد المحاسبي ، ثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة ، عن القاسم ، عن عطاء ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن " القاسم هو محمد بن أبي بزة .

              حدثناه أبو بكر بن خلاد ، ثنا محمد بن غالب تمتام ، ثنا عفان ، ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزة به ، وحدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ، ثنا الحارث بن أسد ، ثنا محمد بن كثير الكوفي ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عبد الرحمن بن أسود ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : " شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من أمر المشركين ، فلم يصل الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فلما فرغ صلاهن الأول فالأول ، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية