الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (22) قوله تعالى: الذي جعل لكم : "الذي" تحتمل النصب والرفع.

                                                                                                                                                                                                                                      فالنصب من خمسة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                      أظهرها: أن يكون نصبه على القطع.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنه نعت لربكم.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنه بدل منه.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أنه مفعول "تتقون" وبه بدأ أبو البقاء .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أنه نعت النعت أي: الموصول الأول، لكن المختار أن النعت لا ينعت بل إن جاء ما يوهم ذلك جعل نعتا للأول، إلا أن يمنع مانع فيكون نعتا للنعت، نحو قولهم: "يا أيها الفارس ذو الجمة"، [ ص: 192 ] فذو الجمة نعت للفارس لا لـ"أي" لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره.

                                                                                                                                                                                                                                      والرفع من وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما - وهو الأصح - أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو الذي جعل.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني أنه مبتدأ وخبره قوله بعد ذلك: "فلا تجعلوا" وهذا فيه نظر من وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن صلته ماضية فلم يشبه الشرط فلا تزاد في خبره الفاء.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: عدم الرابط، إلا أن يقال بمذهب الأخفش، وهو أن يجعل الربط مكرر الاسم الظاهر إذا كان بمعناه، نحو: "زيد قام أبو عبد الله"، إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، وكذلك هنا أقام الجلالة مقام الضمير كأنه قال: الذي جعل لكم فلا تجعلوا له أندادا.

                                                                                                                                                                                                                                      و"جعل" فيها وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن تكون بمعنى صير فتتعدى لمفعولين فيكون "الأرض" مفعولا أول، و"فراشا" مفعولا ثانيا.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن تكون بمعنى "خلق" فتتعدى لواحد وهو "الأرض" ويكون "فراشا" حالا.

                                                                                                                                                                                                                                      "والسماء بناء" عطف على "الأرض فراشا" على التقديرين المتقدمين، و"لكم" متعلق بالجعل أي لأجلكم.

                                                                                                                                                                                                                                      والفراش ما يوطأ ويقعد عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      والبناء مصدر بنيت، وإنما قلبت الياء همزة لتطرفها بعد ألف زائدة، وقد يراد به المفعول.

                                                                                                                                                                                                                                      و"أنزل" عطف على "جعل"، و"من السماء" متعلق به، وهي لابتداء الغاية.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أن يكون حالا من "ما" لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصبت حالا، وحينئذ معناها التبعيض، وثم مضاف محذوف، أي: من مياه السماء ماء.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل (ماء) موه بدليل قولهم: "ماهت الركية تموه" وفي جمعه: [ ص: 193 ] مياه وأمواه، وفي تصغيره: مويه، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فاجتمع حرفان خفيان: الألف والهاء، فأبدلوا من الهاء أختها وهي الهمزة لأنها أجلد منها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "فأخرج" عطف على "أنزل" مرتب عليه، و"به" متعلق به، والباء فيه للسببية.

                                                                                                                                                                                                                                      و"من الثمرات" متعلق به أيضا، ومن هنا للتبعيض، وأبعد من جعلها زائدة لوجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: زيادتها في الواجب، وكون المجرور بها معرفة، وهذا لا يقول به بصري ولا كوفي إلا أبا الحسن الأخفش.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يكون جميع الثمرات رزقا لنا، وهذا يخالف الواقع، إذ كثير من الثمرات ليس رزقا.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلها الزمخشري لبيان الجنس، وفيه نظر، إذ لم يتقدم ما يبين هذا، وكأنه يعني أنه بيان لـ(رزقا) من حيث المعنى، و"رزقا" ظاهره أنه مفعول به، ناصبه "أخرج".

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن يكون "من الثمرات" في موضع المفعول به، والتقدير: فأخرج ببعض الماء بعض الثمرات.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "رزقا" حينئذ وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن يكون حالا على أن الرزق بمعنى المرزوق، كالطحن والرعي.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يكون مصدرا منصوبا على المفعول من أجله، وفيه شروط النصب موجودة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما نكر "ماء" و"رزقا" ليفيد التبعيض؛ لأن المعنى: وأنزل من السماء بعض ماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذلك بعض رزقهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز أبو البقاء أن يكون "من الثمرات" حالا من "رزقا"؛ لأنه لو تأخر لكان نعتا، فعلى هذا يتعلق بمحذوف، وجعل الزمخشري "من الثمرات" [ ص: 194 ] واقعا موقع الثمر أو الثمار، يعني مما ناب فيه جمع قلة عن جمع الكثرة، نحو: كم تركوا من جنات و ثلاثة قروء .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا حاجة تدعو إلى هذا لأن جمع السلامة المحلى بأل التي للعموم يقع للكثرة، فلا فرق إذا بين الثمرات والثمار، ولذلك رد المحققون قول من رد على حسان بن ثابت رضي الله عنه:


                                                                                                                                                                                                                                      265 - لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما



                                                                                                                                                                                                                                      قالوا: كان ينبغي أن يقول: الجفان: وسيوفنا؛ لأنه أمدح، وليس بصحيح لما ذكرت لك.

                                                                                                                                                                                                                                      و"لكم" يحتمل التعلق بـ"أخرج"، ويحتمل التعلق بمحذوف، على أن يكون صفة لـ"رزقا"، هذا إن أريد بالرزق المرزوق، وإن أريد به المصدر فيحتمل أن تكون الكاف في "لكم" مفعولا بالمصدر، واللام مقوية له، نحو: "ضربت ابني تأديبا له" أي: تأديبه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا الفاء للتسبب، أي: تسبب عن إيجاد هذه الآيات الباهرة النهي عن اتخاذكم الأنداد.

                                                                                                                                                                                                                                      و"لا" ناهية و"تجعلوا" مجزوم بها، علامة جزمه حذف النون، وهي هنا بمعنى تصيروا، وأجاز أبو البقاء أن تكون بمعنى تسموا، وعلى القولين فيتعدى لاثنين أولهما: أندادا، وثانيهما: الجار والمجرور قبله، وهو واجب التقديم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"أندادا" جمع ند، [ ص: 195 ] وقال أبو البقاء : "أندادا جمع ند ونديد" وفي جعله جمع نديد نظر؛ لأن أفعالا لا يحفظ في فعيل بمعنى فاعل، نحو: شريف وأشراف، ولا يقاس عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      والند: المقاوم المضاهي، سواء كان [مثلا] أو ضدا أو خلافا وقيل: هو الضد عن أبي عبيدة، وقيل: الكفء والمثل، قال حسان:


                                                                                                                                                                                                                                      266 - أتهجوه ولست له بند     فشركما لخيركما الفداء



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لست له بكفء، وقد روي ذلك، وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      267 - نحمد الله ولا ند له     عنده الخير وما شاء فعل



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "الند المثل، ولا يقال إلا للند المخالف، قال جرير:


                                                                                                                                                                                                                                      268 - أتيما تجعلون إلي ندا     وما تيم لذي حسب نديد



                                                                                                                                                                                                                                      وناددت الرجل خالفته ونافرته من: ند يند ندودا أي نفر"، انتهى، ويقال "نديدة" على المبالغة، قال لبيد:


                                                                                                                                                                                                                                      269 - لكيلا يكون السندري نديدتي     وأجعل أقواما عموما عماعما



                                                                                                                                                                                                                                      وأما الند بفتح النون فهو التل المرتفع، والند الطيب أيضا، ليس بعربي.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الجملة متعلقة من حيث المعنى بقوله: "اعبدوا"؛ لأن أصل [ ص: 196 ] العبادة التوحيد، ويجوز أن يتعلق بـ "الذي" إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية فلا تجعلوا له أندادا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "يتعلق بـ "لعلكم" على أن ينتصب "تجعلوا" انتصاب فأطلع في قراءة حفص، أي: خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، فعلى قوله: تكون "لا" نافية، والفعل بعدها منصوب بإضمار "أن" في جواب الترجي، وهذا لا يجيزه البصريون ، وسيأتي تأويل "فأطلع" ونظائره في موضعه إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وأنتم تعلمون جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال، ومفعول العلم متروك؛ لأن المعنى: وأنتم من أهل العلم، أو حذف اختصارا أي: وأنتم تعلمون بطلان ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      والاسم من "أنتم" قيل: أن، والتاء حرف خطاب يتغير بحسب المخاطب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: بل التاء هي الاسم وأن عماد قبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: بل هو ضمير برمته وهو ضمير رفع منفصل، وحكم ميمه بالنسبة إلى السكون والحركة والإشباع والاختلاس حكم ميم هم، وقد تقدم جميع ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية