الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (23) قوله تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا : إن حرف شرط يجزم فعلين شرطا وجزاء، ولا يكون إلا في المحتمل وقوعه، وهي أم الباب، فلذلك يحذف مجزومها كثيرا، وقد يحذف الشرط والجزاء معا، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      270 - قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيرا معدما قالت: وإن

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 197 ] أي: وإن كان فقيرا تزوجته، وتكون "إن" نافية لا تعمل وتهمل، وتكون مخففة وزائدة باطراد وعدمه، وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى إذ، وبعضهم أن تكون بمعنى قد، ولها أحكام كثيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      و"في ريب" خبر كان، فيتعلق بمحذوف، ومحل "كان" الجزم، وهي وإن كانت ماضية لفظا فهي مستقبلة معنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم المبرد أن لـ"كان" الناقصة حكما مع "إن" ليس لغيرها من الأفعال الناقصة فزعم أن لقوة "كان" أن "إن" الشرطية لا تقلب معناها إلى الاستقبال، بل تكون على معناها من المضي، وتبعه في ذلك أبو البقاء ، وعلل ذلك بأنه كثر استعمالها غير دالة على حدث.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا مردود عند الجمهور لأن التعليق إنما يكون في المستقبل، وتأولوا ما ظاهره غير ذلك، نحو: إن كان قميصه قد : إما بإضمار "يكن" بعد "إن"، وإما على التبيين، والتقدير: إن يكن قميصه أو إن يتبين كون قميصه، ولما خفي هذا المعنى على بعضهم جعل "إن" هنا بمنزلة "إذ".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "في ريب" مجاز من حيث إنه جعل الريب ظرفا محيطا بهم، بمنزلة المكان لكثرة وقوعه منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"مما" يتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة لريب فهو في محل جر.

                                                                                                                                                                                                                                      و"من" للسببية أو ابتداء الغاية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض، ويجوز أن تتعلق بريب، أي: إن ارتبتم من أجل، فـ"من" هنا [ ص: 198 ] للسببية "وما" موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف أي: نزلناه.

                                                                                                                                                                                                                                      والتضعيف في "نزلنا" هنا للتعدية مرادفا لهمزة التعدي، ويدل عليه قراءة "أنزلنا" بالهمز، وجعل الزمخشري التضعيف هنا دالا على نزوله منجما في أوقات مختلفة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعضهم: "وهذا الذي ذهب إليه في تضعيف الكلمة هنا هو الذي يعبر عنه بالتكثير، أي يفعل [ذلك] مرة بعد مرة، فيدل على ذلك بالتضعيف، ويعبر عنه بالكثرة".

                                                                                                                                                                                                                                      قال: "وذهل عن قاعدة، وهي أن التضعيف الدال على ذلك من شرطه أن يكون في الأفعال المتعدية قبل التضعيف غالبا نحو: جرحت زيدا، وفتحت الباب، ولا يقال: جلس زيد، ونزل لم يكن متعديا قبل التضعيف، وإنما جعله متعديا تضعيفه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "غالبا" لأنه قد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم قليلا نحو: "موت المال" وأيضا فالتضعيف الدال على الكثرة لا يجعل القاصر متعديا كما تقدم في (موت المال) ونزل كان قاصرا فصار بالتضعيف متعديا، فدل على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير، وأيضا كان يحتاج قوله تعالى: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة إلى تأويل، وأيضا فقد جاء التضعيف حيث لا يمكن فيه التكثير نحو قوله تعالى: وقالوا لولا نزل عليه آية لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا إلا بتأويل بعيد جدا، إذ ليس المعنى على [ ص: 199 ] أنهم اقترحوا تكرير نزول آية، ولا أنه علق تكرير نزول ملك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله: "نزلنا" التفات من الغيبة إلى التكلم لأن قبله: اعبدوا ربكم فلو جاء الكلام عليه لقيل: مما نزل على عبده، ولكنه التفت للتفخيم.

                                                                                                                                                                                                                                      و"على عبدنا" متعلق بنزلنا، وعدي بـ "على" لإفادتها الاستعلاء، كأن المنزل تمكن من المنزول عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدي بها، دون "إلى"، فإنها تفيد الانتهاء والوصول فقط، والإضافة في "عبدنا" تفيد التشريف كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      271 - يا قوم قلبي عند زهراء     يعرفه السامع والرائي
                                                                                                                                                                                                                                      لا تدعني إلا بيا عبدها     فإنه أشرف أسمائي



                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "عبادنا"، فقيل: المراد النبي - عليه السلام - وأمته؛ لأن جدوى المنزل حاصل لهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المراد بهم جميع الأنبياء عليهم السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فأتوا جواب الشرط، والفاء هنا واجبة لأن ما بعدها لا يصح أن يكون شرطا بنفسه، وأصل فأتوا: (اإتيوا) مثل: اضربوا، فالهمزة الأولى همزة وصل أتي بها للابتداء بالساكن، والثانية فاء الكلمة، اجتمع همزتان، وجب قلب ثانيهما ياء على حد "إيمان" وبابه، واستثقلت الضمة على الياء التي هي لام الكلمة فقدرت، فسكنت الياء وبعدها واو الضمير ساكنة فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضمت التاء للتجانس، فوزن ايتوا: افعوا، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداء، أما في الدرج فإنه يستغنى عنها وتعود الهمزة التي هي فاء الكلمة؛ لأنها إنما قلبت ياء للكسر الذي كان قبلها، [ ص: 200 ] وقد زال نحو: "فأتوا" وبابه، وقد تحذف الهمزة التي هي فاء الكلمة في الأمر كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      272 - فإن نحن لم ننهض لكم فنبركم     فتونا فعادونا إذا بالجرائم



                                                                                                                                                                                                                                      يريد: فأتونا كقوله: فأتوا.

                                                                                                                                                                                                                                      و(بسورة) متعلق بـ "أتوا".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: من مثله في "الهاء" ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها تعود على (ما نزلنا)، فيكون (من مثله) صفة لسورة، ويتعلق بمحذوف على ما تقرر، أي: بسورة كائنة من مثل المنزل في فصاحته وإخباره بالغيوب وغير ذلك، ويكون معنى "من" التبعيض، وأجاز ابن عطية والمهدوي أن تكون للبيان، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدة، ولا تجيء إلا على قول الأخفش.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنها تعود على "عبدنا" فيتعلق "من مثله" بأتوا، ويكون معنى "من" ابتداء الغاية، ويجوز على هذا الوجه - أيضا - أن تكون صفة لسورة، أي: بسورة كائنة من رجل مثل عبدنا.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: قال أبو البقاء : "إنها تعود على الأنداد بلفظ المفرد كقوله: وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه قلت: ولا حاجة تدعو إلى ذلك، والمعنى يأباه أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      والسورة: الدرجة الرفيعة، قال النابغة:


                                                                                                                                                                                                                                      273 - ألم تر أن الله أعطاك سورة     ترى كل ملك دونها يتذبذب



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 201 ] وسميت سورة القرآن بذلك لأن صاحبها يشرف بها وترفعه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: اشتقاقها من السؤر وهو البقية، ومنه "أسأروا في الإناء" قال الأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      274 - فبانت وقد أسأرت في الفؤا     د صدعا على نأيها مستطيرا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: أبقت، ويدل على ذلك أن تميما وغيرها يهمزون فيقولون: (سؤرة) بالهمز، وسميت سورة القرآن بذلك لأنها قطعة منه، وهي على هذا مخففة من الهمزة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: اشتقاقها من سور البناء؛ لأنها تحيط بقارئها وتحفظه كسور المدينة، ولكن جمع سورة القرآن سور بفتح الواو، وجمع سورة البناء سور بسكونها ففرقوا بينهما في الجمع.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وادعوا شهداءكم هذه جملة أمر معطوفة على الأمر قبلها، فهي في محل جزم أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      ووزن ادعوا: افعوا؛ لأن لام الكلمة محذوف دلالة على السكون في الأمر الذي هو جزم في المضارع، والواو ضمير الفاعلين و"شهداءكم" مفعول به جمع شهيد كظريف، وقيل: بل جمع شاهد كشاعر، والأول أولى لاطراد فعلاء في فعيل دون فاعل، والشهادة: الحضور.

                                                                                                                                                                                                                                      و من دون الله متعلق بادعوا، أي: ادعوا من دون الله شهداءكم، فلا تستشهدوا بالله، فكأنه قال: وادعوا من غير الله من يشهد لكم، ويحتمل أن يتعلق بـ "شهداءكم"، والمعنى: ادعوا من اتخذتموه آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم بصحة عبادتكم إياهم، أو أعوانكم من دون أولياء الله، أي الذين تستعينون بهم دون الله.

                                                                                                                                                                                                                                      أو يكون معنى "من دون الله" بين يدي الله كقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 202 ]

                                                                                                                                                                                                                                      275 - تريك القذى من دونها وهي دونه     لوجه أخيها في الإناء قطوب



                                                                                                                                                                                                                                      أي: تريك القذى قدامها وهي قدامه لرقتها وصفائها.

                                                                                                                                                                                                                                      واختار أبو البقاء أن يكون من دون الله حالا من "شهداءكم"، والعامل فيه محذوف، قال: "تقديره: شهداءكم منفردين عن الله أو عن أنصار الله".

                                                                                                                                                                                                                                      و"دون" من ظروف الأمكنة، ولا تتصرف على المشهور إلا بالجر بـ"من"، وزعم الأخفش أنها متصرفة، وجعل من ذلك قوله تعالى: ومنا دون ذلك قال: "دون" مبتدأ، و"منا" خبره، وإنما بني لإضافته إلى مبني، وقد شذ رفعه خبرا في قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      276 - ألم تر أني قد حميت حقيقتي     وباشرت حد الموت والموت دونها



                                                                                                                                                                                                                                      وهو من الأسماء اللازمة للإضافة لفظا ومعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما "دون" التي بمعنى رديء فتلك صفة كسائر الصفات، تقول: هذا ثوب دون، ورأيت ثوبا دونا، أي: رديئا، وليست مما نحن فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إن كنتم صادقين هذا شرط حذف جوابه للدلالة عليه، تقديره: إن كنتم صادقين فافعلوا، ومتعلق الصدق محذوف، والظاهر تقديره هكذا: إن كنتم صادقين في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا أنه من عندنا، وقيل: فيما تقدرون عليه من المعارضة، وقد صرح بذلك عنهم في آية أخرى حيث قال تعالى حاكيا عنهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      والصدق [ ص: 203 ] ضد الكذب، وقد تقدم فيعرف من هناك، والصديق مشتق منه لصدقه في الود والنصح، والصدق من الرماح: الصلبة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية