الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (29) قوله تعالى: هو الذي خلق لكم : هو مبتدأ وهو ضمير مرفوع منفصل للغائب المذكر، والمشهور تخفيف واوه وفتحها، وقد تشدد كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      320 - وإن لساني شهدة يشتفى بها وهو على من صبه الله علقم



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تسكن، وقد تحذف كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      321 - فبيناه يشري . . . .      . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      والموصول بعده خبر عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      و"لكم" متعلق بخلق، ومعناه السببية، [ ص: 242 ] أي: لأجلكم، وقيل: للملك والإباحة فيكون تمليكا خاصا بما ينتفع منه، وقيل: للاختصاص، و"ما" موصولة و"في الأرض" صلتها، وهي في محل نصب مفعول بها، و"جميعا" حال من المفعول بمعنى كل، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزمان، وهذا هو الفارق بين قولك: "جاؤوا جميعا" و"جاؤوا معا"، فإن "مع" تقتضي المصاحبة في الزمان بخلاف جميع، قيل: وهي هنا حال مؤكدة لأن قوله: "ما في الأرض" عام.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات أصل "ثم" أن تقتضي تراخيا زمانيا، ولا زمان هنا، فقيل: إشارة إلى التراخي بين رتبتي خلق الأرض والسماء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال أخر من جعل الجبال والبركة وتقدير الأقوات - كما أشار إليه في الآية الأخرى - عطف بثم إذ بين خلق الأرض والاستواء إلى السماء تراخ.

                                                                                                                                                                                                                                      واستوى معناه لغة: استقام واعتدل، من استوى العود.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: علا وارتفع قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      322 - فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة     وقد حلق النجم اليماني فاستوى



                                                                                                                                                                                                                                      وقال تعالى: فإذا استويت أنت ومن معك ومعناه هنا قصد وعمد، وفاعل استوى ضمير يعود على الله، وقيل: يعود على الدخان نقله [ ص: 243 ] ابن عطية ، وهذا غلط لوجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: عدم ما يدل عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه يرده قوله: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان).

                                                                                                                                                                                                                                      و"إلى" حرف انتهاء على بابها، وقيل: هي بمعنى "على" فيكون في المعنى كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      323 - قد استوى بشر على العراق     من غير سيف ودم مهراق



                                                                                                                                                                                                                                      أي: استولى، ومثله قول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      324 - فلما علونا واستوينا عليهم     تركناهم صرعى لنسر وكاسر



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ثم مضاف محذوف، ضميره هو الفاعل أي استوى أمره، و إلى السماء متعلق بـ"استوى"، و"فسواهن" الضمير يعود على السماء: إما لأنها جمع سماوة كما تقدم، وإما لأنها اسم جنس يطلق على الجمع، وقال الزمخشري : "هن" ضمير مبهم، و"سبع سماوات" يفسره كقولهم: "ربه رجلا".

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد عليه هذا، فإنه ليس من المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده؛ لأن النحويين حصروا ذلك في سبعة مواضع:

                                                                                                                                                                                                                                      ضمير الشأن، والمجرور بـ"رب"، والمرفوع بنعم وبئس وما جرى مجراهما، [ ص: 244 ] وبأول المتنازعين، والمفسر بخبره، وبالمبدل منه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال هذا المعترض: "إلا أن يتخيل فيه أن يكون "سبع سماوات" بدلا وهو الذي يقتضيه تشبيهه بـ(ربه رجلا) فإنه ضمير مبهم ليس عائدا على شيء قبله، لكن هذا يضعف بكون هذا التقدير يجعله غير مرتبط بما قبله ارتباطا كليا، فيكون أخبر بإخبارين أحدهما: أنه استوى إلى السماء، والثاني: أنه سوى سبع سماوات، وظاهر الكلام أن الذي استوى إليه هو المسوى بعينه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: سبع سماوات في نصبه خمسة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                      أحسنها: أنه بدل من الضمير في فسواهن العائد على السماء كقولك: أخوك مررت به زيد.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنه بدل من الضمير أيضا، ولكن هذا الضمير يفسره ما بعده، وهذا يضعف بما ضعف به قول الزمخشري، وقد تقدم آنفا.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنه مفعول به، والأصل: فسوى منهن سبع سماوات، وشبهوه بقوله تعالى: واختار موسى قومه سبعين أي: من قومه، قاله أبو البقاء وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا ضعيف [ ص: 245 ] لوجهين، أحدهما بالنسبة إلى اللفظ، والثاني بالنسبة إلى المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      أما الأول: فلأنه ليس من الأفعال المتعدية لاثنين أحدهما بإسقاط الخافض لأنها محصورة في أمر واختار وأخواتهما.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أنه يقتضي أن يكون ثم سماوات كثيرة، سوى من جملتها سبعا وليس كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أن "سوى" بمعنى صير فيتعدى لاثنين، فيكون "سبع" مفعولا ثانيا، وهذا لم يثبت - أيضا - أعني جعل "سوى" مثل صير.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن ينتصب حالا ويعزى للأخفش.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه بعد من وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه حال مقدرة وهو خلاف الأصل.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها مؤولة بالمشتق وهو خلاف الأصل أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وهو بكل شيء عليم "هو" مبتدأ و"عليم" خبره، والجار قبله يتعلق به.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أنه يجوز تسكين هاء "هو" و"هي" بعد الواو والفاء ولام الابتداء وثم، نحو: (فهي كالحجارة)، (ثم هو يوم القيامة)، (لهو الغني)، (لهي الحيوان)، تشبيها لـ"هو" بعضد، ولـ"هي" بكتف، [ ص: 246 ] فكما يجوز تسكين عين عضد وكتف يجوز تسكين هاء "هو" و"هي" بعد الأحرف المذكورة؛ إجراء للمنفصل مجرى المتصل لكثرة دورها معها، وقد تسكن بعد كاف الجر كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      325 - فقلت لهم ما هن كهي فكيف لي     سلو ولا أنفك صبا متيما



                                                                                                                                                                                                                                      وبعد همزة الاستفهام كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      326 - فقمت للطيف مرتاعا فأرقني     فقلت أهي سرت أم عادني حلم



                                                                                                                                                                                                                                      وبعد "لكن" في قراءة ابن حمدون: (لكن هو الله ربي) وكذا من قوله: (يمل هو).

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: (عليم) (فعيل) من علم متعد بنفسه فكيف تعدى بالباء، وكان من حقه إذا تقدم مفعوله أن يتعدى إليه بنفسه أو باللام المقوية، وإذا تأخر [ ص: 247 ] أن يتعدى إليه بنفسه فقط؟

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب: أن أمثلة المبالغة خالفت أفعالها وأسماء فاعليها لمعنى وهو شبهها بأفعل التفضيل بجامع ما فيها من معنى المبالغة، وأفعل التفضيل له حكم في التعدي، فأعطيت أمثلة المبالغة ذلك الحكم: وهو أنها لا تخلو من أن تكون من فعل متعد بنفسه أو لا، فإن كان الأول: فإما أن يفهم علما أو جهلا أو لا، فإن كان الأول تعدت بالباء نحو: هو أعلم بكم وهو عليم بذات الصدور وزيد جهول بك وأنت أجهل به.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان الثاني تعدت باللام، نحو: أنا أضرب لزيد منك، وأنا له ضراب، ومنه فعال لما يريد وإن كانت من متعد بحرف جر تعدت هي بذلك الحرف، نحو: أنا أصبر على كذا، وأنا صبور عليه، وأزهد فيه منك، وزهيد فيه، وهذا مقرر في علم النحو.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية