الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (58) قوله تعالى: هذه القرية : هذه: منصوبة عند سيبويه على الظرف وعند الأخفش على المفعول به، وذلك أن كل ظرف مكان مختص لا يتعدى إليه الفعل إلا بـ"في" تقول: صليت في البيت، ولا تقول: صليت البيت; إلا ما استثني.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن جملة ما استثني "دخل" مع كل مكان مختص، نحو: دخلت البيت والسوق، وهذا مذهب سيبويه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأخفش: الواقع بعد "دخلت" مفعول به كالواقع بعد هدمت في قولك: "هدمت البيت" فلو جاء "دخل" مع غير الظرف تعدى [بفي، نحو: دخلت في الأمر، ولا تقول: دخلت الأمر، وكذا لو جاء الظرف المختص مع غير "دخل" تعدى] بـ"في" إلا ما شذ كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      481 - جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أم معبد



                                                                                                                                                                                                                                      و"القرية" نعت لـ"هذه"، أو عطف بيان كما تقدم، والقرية مشتقة من قريت أي: جمعت: تقول: قريت الماء في الحوض، أي: جمعته، واسم ذلك الماء: قرى بكسر القاف.

                                                                                                                                                                                                                                      والمقراة: الجفنة العظيمة، وجمعها مقار، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      482 - عظام المقاري ضيفهم لا يفزع      . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      والقريان: اسم لمجتمع الماء، والقرية في الأصل اسم للمكان [ ص: 373 ] الذي يجتمع فيه القوم، وقد يطلق عليهم مجازا، وقوله تعالى: واسأل القرية يحتمل الوجهين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : "إنها اسم للموضع وللناس جميعا، ويستعمل في كل واحد منهما".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: الباب سجدا "سجدا" حال من فاعل "ادخلوا"، وهو جمع ساجد.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو البقاء : "وهو أبلغ من السجود" يعني أن جمعه على فعل فيه من المبالغة ما ليس في جمعه على فعول، وفيه نظر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل "باب": بوب لقولهم أبواب، وقد يجمع على أبوية لازدواج الكلام، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      483 - هتاك أخبية ولاج أبوبة     يخلط بالبر منه الجد واللينا



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "حطة" قرئ بالرفع والنصب، فالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: مسألتنا حطة أو أمرك حطة، قال الزمخشري : والأصل النصب، بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي [معنى] الثبات، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      484 - شكا إلي جملي طول السرى     صبر جميل فكلانا مبتلى



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 374 ] والأصل: صبرا علي، اصبر صبرا، فجعله من باب سلام عليكم وتكون الجملة في محل نصب بالقول، وقال ابن عطية : "وقيل: أمروا أن يقولوها مرفوعة على هذا اللفظ" يعني على الحكاية، فعلى هذا تكون هي وحدها من غير تقدير شيء معها في محل نصب بالقول، وإنما منع النصب حركة الحكاية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا: "وقال عكرمة: أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله، لتحط بها ذنوبهم" وحكى قولين آخرين بمعناه، ثم قال: "فعلى هذه الأقوال تقتضي النصب، يعني أنه إذا كان المعنى على أن المأمور به لا يتعين أن يكون بهذا اللفظ الخاص، بل بأي شيء يقتضي حط الخطيئة فكان ينبغي أن ينتصب ما بعد القول مفعولا به نحو: قل لزيد خيرا، المعنى: قل له ما هو من جنس الخيور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النحاس: الرفع أولى لما حكي عن العرب في معنى بدل، قال أحمد بن يحيى: يقال: بدلته أي غيرته ولم أزل عينه، وأبدلته أزلت عينه وشخصه كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      485 - عزل الأمير للأمير المبدل



                                                                                                                                                                                                                                      وقال تعالى: ائت بقرآن غير هذا أو بدله ولحديث ابن مسعود: [ ص: 375 ] "قالوا حنطة" تفسير على الرفع يعني أن الله تعالى قال: فبدل الذي يقتضي التغيير لا زوال العين، وهذا المعنى يقتضي الرفع لا النصب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة "حطة" بالنصب، وفيها وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها مصدر نائب عن الفعل، نحو: ضربا زيدا.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن تكون منصوبة بالقول أي: قولوا هذا اللفظ بعينه، كما تقدم في وجه الرفع، فهي على الأول منصوبة بالفعل المقدر، وذلك الفعل المقدر ومنصوبه في محل نصب بالقول، ورجح الزمخشري هذا الوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      والحطة: اسم للهيئة من الحط كالجلسة والقعدة، وقيل: هي لفظة أمروا بها ولا ندري معناها، وقيل: هي التوبة، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      486 - فاز بالحطة التي جعل اللـ     ـه بها ذنب عبده مغفورا



                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "نغفر" هو مجزوم في جواب الأمر، وقد تقدم الخلاف: هل الجازم نفس الجملة أو شرط مقدر؟ أي: إن يقولوا نغفر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "نغفر" بالنون وهو جار على ما قبله من قوله "وإذ قلنا" و"تغفر" مبنيا للمفعول بالتاء [ ص: 376 ] والياء.

                                                                                                                                                                                                                                      و"خطاياكم" مفعول لم يسم فاعله، فالتاء لتأنيث الخطايا، والياء لأن تأنيثها غير حقيقي، وللفصل - أيضا - بـ"لكم".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "يغفر" مبنيا للفاعل وهو الله تعالى، وهي في معنى القراءة الأولى، إلا أن فيه التفاتا.

                                                                                                                                                                                                                                      و"لكم" متعلق بـ"نغفر".

                                                                                                                                                                                                                                      وأدغم أبو عمرو الراء في اللام، والنحاة يستضعفونها، قالوا: لأن الراء حرف تكرير فهي أقوى من اللام، والقاعدة أن الأضعف يدغم في الأقوى من غير عكس، وليس فيها ضعف; لأن انحراف اللام يقاوم تكرير الراء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد طول أبو البقاء وغيره في بيان ضعفها وقد تقدم جوابه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "خطاياكم": إما منصوب بالفعل قبله، أو مرفوع حسبما تقدم من القراءات، وفيها أربعة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: وهو قول الخليل - رحمه الله - أن أصلها: خطايئ، بياء بعد الألف ثم همزة؛ لأنها جمع خطيئة مثل: صحيفة وصحايف، فلو تركت على حالها لوجب قلب الياء همزة لأن مدة فعايل يفعل بها كذا، على ما تقرر في علم التصريف، ففر من ذلك لئلا يجتمع همزتان [بأن] قلب فقدم اللام وأخر عنها المدة فصارت: (خطائي [ ص: 377 ] فاستثقلت على حرف ثقيل في نفسه، وبعده ياء من جنس الكسرة، فقلبوا الكسرة فتحة، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا، فصارت: خطاءا، بهمزة بين ألفين، فاستثقل ذلك فإن الهمزة تشبه الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فقلبوا الهمزة ياء؛ لأنها واقعة موقعها قبل القلب، فصارت خطايا على وزن فعالى، ففيها أربعة أعمال، قلب، وإبدال الكسرة فتحة، وقلب الياء ألفا، وإبدال الهمزة ياء، هكذا ذكر التصريفيون، وهو مذهب الخليل.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: - وعزاه أبو البقاء إليه أيضا - إنه خطائئ بهمزتين الأولى منهما مكسورة وهي المنقلبة عن الياء الزائدة في خطيئة، فهو مثل صحيفة وصحائف فاستثقل الجمع بين الهمزتين، فنقلوا الهمزة الأولى إلى موضع الثانية فصار وزنه: فعاليء، وإنما فعلوا ذلك لتصير المكسورة طرفا، فتنقلب ياء فتصير فعالئ، ثم أبدلوا من كسرة الهمزة الأولى فتحة، فانقلبت الياء بعدها ألفا كما قالوا: يا لهفى ويا أسفى، فصارت الهمزة بين ألفين، فأبدل منها ياء لأن الهمزة قريبة من الألف، فاستكرهوا اجتماع ثلاثة ألفات.

                                                                                                                                                                                                                                      فعلى هذا فيها خمسة تغييرات: تقديم اللام، وإبدال الكسرة فتحة، وإبدال الهمزة الأخيرة ياء، ثم إبدالها ألفا، ثم إبدال الهمزة التي هي لام ياء.

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الأول أولى لقلة العمل، فيكون للخليل في المسألة قولان.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 378 ] الثالث: قول سيبويه ، وهو أن أصلها عنده خطايئ كما تقدم، فأبدل الياء الزائدة همزة، فاجتمع همزتان، فأبدل الثانية منهما ياء لزوما، ثم عمل العمل المتقدم، ووزنها عنده فعائل، مثل صحائف، وفيها على قوله خمسة تغييرات، إبدال الياء المزيدة همزة، وإبدال الهمزة الأصلية ياء، وقلب الكسرة فتحة، وقلب الياء الأصلية ألفا، وقلب الهمزة المزيدة ياء.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: قول الفراء، وهو أن خطايا عنده ليس جمعا لخطيئة بالهمزة وإنما هو جمع لخطية كهدية وهدايا، وركية وركايا، قال الفراء: "ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت خطاءا"، يعني فلم تقلب الهمزة ياء بل بقوها على حالها، ولم يعتد باجتماع ثلاث ألفات، ولكنه لم يقله العرب، فدل ذلك عنده أنه ليس جمعا للمهموز.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكسائي: ولو جمعت مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة مثل: دواب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ "يغفر لكم خطيئاتكم" و"خطيئتكم" بالجمع والتوحيد وبالياء والتاء على ما لم يسم فاعله، و"خطأياكم" بهمز الألف الأولى دون الثانية، وبالعكس، والكلام في هذه القراءات واضح مما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      والغفر: الستر، ومنه: المغفر لسترة الرأس، وغفران الذنوب لأنها تغطيها، وقد تقدم الفرق بينه وبين العفو.

                                                                                                                                                                                                                                      والغفار خرقة تستر الخمار [أن] [ ص: 379 ] يمسه دهن الرأس.

                                                                                                                                                                                                                                      والخطيئة من الخطأ، وأصله العدول عن الجهة، وهو أنواع، أحدها إرادة غير ما يحسن إرادته فيفعله، وهذا هو الخطأ التام يقال منه: خطئ يخطأ خطئا وخطأة.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع بخلافه، يقال منه: أخطأ خطأ فهو مخطئ، وجملة الأمر أن من أراد شيئا واتفق منه غيره يقال: أخطأ، وإن وقع كما أراد يقال: أصاب، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنه أخطأ، ولهذا يقال: أصاب الخطأ وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب وأخطأ الخطأ، وسيأتي الفرق بينهما وبين السيئة إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية