الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (59) قوله تعالى: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم : لا بد في هذا الكلام من تأويل، إذ الذم إنما يتوجه عليهم إذا بدلوا القول الذي قيل لهم، لا إذا بدلوا قولا غيره، فقيل: تقديره: فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم [قولا غير الذي قيل لهم] فـ"بدل" يتعدى لمفعول واحد بنفسه وإلى آخر بالباء، والمجرور بها هو المتروك، والمنصوب هو الموجود كقول أبي النجم:


                                                                                                                                                                                                                                      487 - وبدلت والدهر ذو تبدل هيفا دبورا بالصبا والشمأل



                                                                                                                                                                                                                                      فالمقطوع عنها الصبا والحاصل لها الهيف، قاله أبو البقاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال: يجوز أن يكون بدل محمولا على المعنى تقديره: فقال الذين ظلموا قولا [ ص: 380 ] غير الذي قيل لهم؛ لأن تبديل القول كان بقول، فنصب "غير" عنده في هذين القولين على النعت لـ"قولا" وقيل: تقديره: فبدل الذين ظلموا قولا بغير الذي، فحذف الحرف فانتصب، ومعنى التبديل التغيير كأنه قيل: فغيروا قولا بغيره، أي جاؤوا بقول آخر مكان القول الذي أمروا به، كما يروى في القصة أنهم قالوا بدل "حطة" حنطة في شعيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      والإبدال والاستبدال والتبديل جعل الشيء مكان آخر، وقد يقال: التبديل: التغيير وإن لم يأت ببدله، وقد تقدم الفرق بين بدل وأبدل، وهو أن بدل بمعنى غير من غير إزالة العين، وأبدل تقتضي إزالة العين، إلا أنه قرئ: عسى ربنا أن يبدلنا فأردنا أن يبدلهما ربهما بالوجهين، وهذا يقتضي اتحادهما معنى لا اختلافهما ، والبديل والبدل بمعنى واحد، وبدله غيره.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: بدل وبدل كشبه وشبه ومثل ومثل ونكل ونكل، قال أبو عبيدة: "لم يسمع في فعل وفعل غير هذه الأحرف".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: من السماء [يجوز فيه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن يكون متعلقا بأنزلنا، و"من" لابتداء الغاية، أي: من جهة السماء، وهذا الوجه] هو [ ص: 381 ] الظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني أن يكون صفة لـ"رجزا"، فيتعلق بمحذوف و"من" - أيضا - لابتداء الغاية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: على الذين ظلموا فأعادهم بذكرهم أولا، ولم يقل "عليهم" تنبيها على أن ظلمهم سبب في عقابهم، وهو من إيقاع الظاهر موقع المضمر لهذا الغرض.

                                                                                                                                                                                                                                      وإيقاع الظاهر موقع المضمر على ضربين:

                                                                                                                                                                                                                                      ضرب يقع بعد تمام الكلام كهذه الآية، وقول الخنساء:


                                                                                                                                                                                                                                      488 - تعرقني الدهر نهسا وحزا     وأوجعني الدهر قرعا وغمزا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: أصابتني نوائبه جمع.

                                                                                                                                                                                                                                      وضرب يقع في كلام واحد، نحو قوله: الحاقة ما الحاقة وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      489 - ليت الغراب غداة ينعب دائبا     كان الغراب مقطع الأوداج



                                                                                                                                                                                                                                      وقد جمع عدي بن زيد بين المعنيين فقال:


                                                                                                                                                                                                                                      490 - لا أرى الموت يسبق الموت شيء     نغص الموت ذا الغنى والفقيرا



                                                                                                                                                                                                                                      وجاء في سورة الأعراف فأرسلنا عليهم فجاء هنا بلفظ الإرسال، وبالمضمر دون الظاهر، وذلك أنه تعالى عدد عليهم في هذه [ ص: 382 ] السورة نعما جسيمة كثيرة فكان توجيه الذم عليهم وتوبيخهم بكفرانها أبلغ من ثم، حيث إنه لم يعدد عليهم هناك ما عدد هنا، ولفظ الإنزال للعذاب أبلغ من لفظ الإرسال.

                                                                                                                                                                                                                                      والرجز: العذاب، وفيه لغة أخرى وهي ضم الراء، وقرئ بهما وقيل: المضموم اسم صنم، ومنه: والرجز فاهجر وذلك لأنه سبب العذاب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفراء: الرجز والرجس - بالزاي والسين - بمعنى كالسدغ والزدغ، والصحيح أن الرجز: القذر وسيأتي بيانه، والرجز داء يصيب الإبل فترتعش منه، ومنه بحر الرجز في الشعر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بما كانوا يفسقون متعلق بـ " أنزلنا " والباء للسببية و"ما" يجوز أن تكون مصدرية، وهو الظاهر أي: بسبب فسقهم، وأن تكون موصولة اسمية، والعائد محذوف على التدريج المذكور في غير موضع، والأصل يفسقونه، ولا يقوى جعلها نكرة موصوفة، وقال في سورة الإعراف: يظلمون تنبيها [على] أنهم جامعون بين هذين الوصفين القبيحين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد [ ص: 383 ] تقدم معنى الفسق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن وثاب: (يفسقون) بكسر السين، وقد تقدم أنهما لغتان.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية