الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (90) قوله تعالى: بئسما اشتروا بئس: فعل ماض غير متصرف، معناه الذم، فلا يعمل إلا في معرف بأل، أو فيما أضيف إلى ما هما فيه، أو في مضمر مفسر بنكرة، أو في "ما" على قول سيبويه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه لغات: بئس بكسر العين وتخفيف، هذا الأصل، وبئس بكسر الفاء إتباعا للعين وتخفيف، هذا الإتباع، وهو أشهر الاستعمالات، ومثلها "نعم" في جميع ما تقدم من الأحكام واللغات.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم الكوفيون أنهما اسمان، مستدلين بدخول حرف الجر عليهما في قولهم: "ما هي بنعم الولد نصرها بكاء وبرها سرقة"، "ونعم السير على بئس العير".

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      609 - صبحك الله بخير باكر بنعم طير وشباب فاخر



                                                                                                                                                                                                                                      وقد خرجه البصريون على حذف موصوف، قامت صفته مقامه تقديره: ما هي بولد مقول فيه نعم الولد، ولها أحكام كثيرة، ولا بد بعدها من مخصوص بالمدح أو الذم، وقد يحذف لقرينة، هذا حكم بئس.

                                                                                                                                                                                                                                      أما، "ما" الواقعة بعدها كهذه الآية: فاختلف النحويون فيها اختلافا كثيرا، واضطربت النقول عنهم اضطرابا شديدا، فاختلفوا: هل لها محل من الإعراب أم لا؟ فذهب الفراء إلى أنها مع "بئس" شيء واحد ركب تركيب [ ص: 508 ] "حبذا" نقله ابن عطية ، ونقل عنه المهدوي أنه يجوز أن تكون "ما" مع بئس بمنزلة كلما، فظاهر هذين النقلين أنها لا محل لها.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب الجمهور إلى أن لها محلا، ثم اختلفوا: محلها رفع أو نصب؟ فذهب الأخفش إلى أنها في محل نصب على التمييز والجملة بعدها في محل نصب صفة لها، وفاعل بئس مضمر تفسره "ما"، والمخصوص بالذم هو قوله: أن يكفروا لأنه في تأويل مصدر، والتقدير: بئس هو شيئا اشتروا به كفرهم، وبه قال الفارسي في أحد قوليه، واختاره الزمخشري ، ويجوز على هذا أن يكون المخصوص بالذم محذوفا، و"اشتروا" صفة له في محل رفع تقديره: بئس شيئا شيء أو كفر اشتروا به، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      610 - لنعم الفتى أضحى بأكناف حائل      . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      أي: فتى أضحى، و أن يكفروا بدل من ذلك المحذوف، أو خبر مبتدأ محذوف أي: هو أن يكفروا.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب الكسائي إلى أن "ما" منصوبة المحل أيضا، لكنه قدر بعدها "ما" أخرى موصولة بمعنى الذي، وجعل الجملة من قوله "اشتروا" صلتها، و"ما" هذه الموصولة هي المخصوص بالذم، والتقدير: بئس شيئا الذي اشتروا به أنفسهم، فلا محل لـ"اشتروا" على هذا، ويكون أن يكفروا على هذا القول خبرا لمبتدأ محذوف كما تقدم، فتلخص في الجملة الواقعة بعد "ما" على القول بنصبها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صفة لها فتكون في محل نصب أو صلة لـ"ما" المحذوفة فلا محل لها، أو صفة للمخصوص بالذم فتكون في محل رفع.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 509 ] وذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس، فقال سيبويه : هي معرفة تامة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف أي شيء اشتروا به أنفسهم، وعزي هذا القول - أيضا - للكسائي.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب الفراء والكسائي - أيضا - إلى أن "ما" موصولة بمعنى الذي والجملة بعدها صلتها، ونقله ابن عطية عن سيبويه ، وهو أحد قولي الفارسي، والتقدير: بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، فأن يكفروا هو المخصوص بالذم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "وما نقله ابن عطية عن سيبويه وهم عليه".

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل المهدوي وابن عطية عن الكسائي - أيضا - أن "ما" يجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: بئس اشتراؤهم، فتكون "ما" وما في حيزها في محل رفع، قال ابن عطية : "وهذا معترض بأن "بئس" لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة للضمير".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "وهذا لا يلزم إلا إذا نص أنه مرفوع بئس، أما إذا جعله المخصوص بالذم وجعل فاعل "بئس" مضمرا والتمييز محذوف لفهم المعنى، والتقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم فلا يلزم الاعتراض"، قلت: وبهذا - أعني بجعل فاعل بئس مضمرا فيها - جوز أبو البقاء في "ما" أن تكون مصدرية، فإنه قال: "والرابع أن تكون مصدرية أي: بئس شراؤهم، وفاعل بئس على هذا مضمر لأن المصدر ههنا مخصوص ليس بجنس"، يعني فلا يكون فاعلا، لكن يبطل هذا القول عود الضمير في "به" على "ما" والمصدرية لا يعود عليها؛ لأنها حرف عند [ ص: 510 ] الجمهور، وتقدير أدلة كل فريق مذكور في المطولات، فهذه نهاية القول في "بئسما" و"نعما" والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أن يكفروا قد تقدم فيه أنه يجوز أن يكون هو المخصوص بالذم فتكون الأوجه الثلاثة: إما مبتدأ وخبره الجملة قبله، ولا حاجة إلى الرابط؛ لأن العموم قائم مقامه إذ الألف واللام في فاعل نعم وبئس للجنس، أو لأن الجملة نفس المبتدأ، وإما خبر لمبتدأ محذوف، وإما مبتدأ وخبره محذوف، وتقدم أنه يجوز أن يكون بدلا أو خبرا لمبتدأ محذوف حسبما تقرر وتحرر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز الفراء أن يكون في محل جر بدلا من الضمير في "به" إذا جعلت "ما" تامة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بما أنزل الله متعلق بيكفروا، وقد تقدم أن "كفر" يتعدى بنفسه تارة وبحرف الجر أخرى، و"ما" موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره: أنزله، ويضعف جعلها نكرة موصوفة، وكذلك جعلها مصدرية، والمصدر قائم مقام المفعول أي بإنزاله يعني بالمنزل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بغيا فيه ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                                                                      أظهرها: أنه مفعول من أجله وهو مستوف لشروط النصب، وفي الناصب له قولان، أحدهما - وهو الظاهر - أنه "يكفروا" أي علة كفرهم البغي، والثاني أنه اشتروا وإليه ينحو كلام الزمخشري، فإنه قال: وهو علة اشتروا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني من الأوجه الثلاثة: أنه منصوب على المصدر بفعل يدل عليه ما تقدم أي بغوا بغيا.

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه في موضع حال، وفي صاحبها القولان المتقدمان: إما فاعل اشتروا وإما فاعل يكفروا تقديره: اشتروا باغين، أو يكفروا باغين.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 511 ] والبغي: أصله الفساد من قولهم: بغى الجرح أي فسد قاله الأصمعي، وقيل: هو شدة الطلب، ومنه قوله تعالى: ما نبغي وقال الراجز:


                                                                                                                                                                                                                                      611 - أنشد والباغي يحب الوجدان     قلائصا مختلفات الألوان



                                                                                                                                                                                                                                      ومنه "البغي" لشدة طلبها له.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله أن ينزل الله فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه مفعول من أجله والناصب له "بغيا" أي: علة البغي إنزال الله فضله على محمد عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه على إسقاط الخافض، والتقدير: بغيا على أن ينزل، أي: حسدا على أن ينزل، فيجيء فيه الخلاف المشهور: أهي في موضع نصب أو في موضع جر؟.

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه في محل جر بدلا من "ما" في قوله: بما أنزل الله بدل اشتمال، أي: بإنزال الله فيكون مثل قول امرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      612 - أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميع المضارع من "أنزل" مخففا إلا ما وقع الإجماع على تشديده في الحجر وما ننزله إلا وقد خالفا هذا الأصل: أما أبو عمرو فإنه شدد على أن ينزل آية في (الأنعام)، وأما ابن كثير فإنه شدد في (الإسراء)، وننزل من القرآن حتى تنزل علينا كتابا والباقون [ ص: 512 ] بالتشديد في جميع المضارع إلا حمزة والكسائي فإنهما خالفا هذا الأصل فخففا: وينزل الغيث آخر (لقمان)، وهو الذي ينزل الغيث في (الشورى).

                                                                                                                                                                                                                                      والهمزة والتضعيف للتعدية، وقد تقدم: هل بينهما فرق؟ وتحقيق كل من القولين، وقد ذكر القراء مناسبات للإجماع على التشديد في ذلك الموضع ومخالفة كل واحد أصله لماذا؟ بما يطول ذكره، والأظهر من ذلك كله أنه جمع بين اللغات.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: من فضله : "من" لابتداء الغاية، وفيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه صفة لموصوف محذوف هو مفعول "ينزل" أي: أن ينزل الله شيئا كائنا من فضله فيكون في محل نصب.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن "من" زائدة، وهو رأي الأخفش، وحينئذ فلا تعلق له، والمجرور بها هو المفعول أي: أن ينزل الله فضله.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله على من يشاء متعلق بـ(ينزل).

                                                                                                                                                                                                                                      و"من" يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد على الموصول أو الموصوف محذوف لاستكمال الشروط المجوزة للحذف، والتقدير: على الذي يشاؤه أو على رجل يشاؤه، وقدره أبو البقاء مجرورا فإنه قال بعد تجويزه في "من" أن تكون موصوفة أو موصولة، ومفعول "يشاء" محذوف أي: يشاء نزوله عليه، ويجوز أن يكون يشاء يختار ويصطفي، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عرفت أن العائد المجرور لا يحذف إلا بشروط وليست موجودة هنا فلا حاجة إلى هذا التقدير.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: من عباده فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه حال من الضمير المحذوف [ ص: 513 ] الذي هو عائد على الموصول أو الموصوف، والإضافة تقتضي التشريف.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يكون صفة لـ"من" بعد صفة على القول بكونها نكرة، قاله أبو البقاء ، وهو ضعيف لأن البداءة بالجار والمجرور على الجملة في باب النعت عند اجتماعهما أولى لكونه أقرب إلى المفرد، فهو في محل نصب على الأول وجر على الثاني، وفي كلا القولين يتعلق بمحذوف وجوبا لما عرفت.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فباءوا بغضب الباء للحال، أي: رجعوا ملتبسين بغضب أي مغضوبا عليهم وقد تقدم ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله على غضب في محل جر؛ لأنه صفة لقوله "بغضب" أي: كائن على غضب أي بغضب مترادف.

                                                                                                                                                                                                                                      وهل الغضبان مختلفان لاختلاف سببهما، فالأول لعبادة أسلافهم العجل والثاني لكفرهم بمحمد عليه السلام، أو الأول لكفرهم بعيسى والثاني لكفرهم بمحمد صلى الله وسلم عليهما، أو هما شيء واحد وذكرا تشديدا للحال وتأكيدا؟ خلاف مشهور.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: مهين صفة لـ(عذاب)، وأصله: "مهون" لأنه من الهوان وهو اسم فاعل من أهان يهين إهانة، مثل أقام يقيم إقامة، فنقلت كسرة الواو على الساكن قبلها، فسكنت الواو بعد كسرة فقلبت ياء.

                                                                                                                                                                                                                                      والإهانة: الإذلال والخزي، وقال: "وللكافرين" ولم يقل: "ولهم" تنبيها على العلة المقتضية للعذاب المهين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية