الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الرابع عشر : النسخ المشهورة المشتملة على أحاديث بإسناد واحد، كنسخة "همام بن منبه، عن أبي هريرة" رواية عبد الرزاق، عن معمر عنه، ونحوها من النسخ والأجزاء . منهم من يجدد ذكر الإسناد في أول كل حديث منها ، ويوجد هذا في كثير من الأصول القديمة، وذلك أحوط ، ومنهم من يكتفي بذكر الإسناد في أولها عند أول حديث منها، أو في أول كل مجلس من مجالس سماعها، ويدرج الباقي عليه، ويقول في كل حديث بعده: " وبالإسناد "، أو " وبه " وذلك هو الأغلب الأكثر .

وإذا أراد من كان سماعه على هذا الوجه تفريق تلك الأحاديث، ورواية كل حديث منها بالإسناد المذكور في أولها، جاز له ذلك عند الأكثرين ، منهم وكيع بن الجراح ، ويحيى بن معين، وأبو بكر الإسماعيلي ، وهذا لأن الجميع معطوف على الأول، فالإسناد المذكور أولا في حكم المذكور في كل حديث، وهو بمثابة تقطيع المتن الواحد في أبواب بإسناده المذكور في أوله. والله أعلم .

ومن المحدثين من أبى إفراد شيء من تلك الأحاديث المدرجة بالإسناد المذكور أولا، ورآه تدليسا . وسأل بعض أهل الحديث الأستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني الفقيه الأصولي عن ذلك، فقال : "لا يجوز ".

وعلى هذا من كان سماعه على هذا الوجه فطريقه أن يبين، ويحكي ذلك كما جرى، كما فعله مسلم في صحيحه في صحيفة همام بن منبه، نحو قوله: ثنا محمد بن رافع، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال: أنا معمر عن همام بن منبه، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة، وذكر أحاديث، منها : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أدنى مقعد أحدكم في الجنة أن يقول له : تمن .... الحديث ". وهكذا فعل كثير من المؤلفين. والله أعلم .

الخامس عشر : إذا قدم ذكر المتن على الإسناد، أو ذكر المتن، وبعض الإسناد، ثم ذكر الإسناد عقيبه على الاتصال ، مثل أن يقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ) أو يقول: ( روى عمرو بن دينار، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ) ثم يقول: ( أخبرنا به فلان، قال : أخبرنا فلان) ويسوق الإسناد حتى يتصل بما قدمه، فهذا يلتحق بما إذا قدم الإسناد في كونه يصير به مسندا للحديث لا مرسلا له .

فلو أراد من سمعه منه هكذا أن يقدم الإسناد ويؤخر المتن، ويلفقه كذلك فقد ورد عن بعض من تقدم من المحدثين أنه جوز ذلك .

قلت : ينبغي أن يكون فيه خلاف نحو الخلاف في تقديم بعض متن الحديث على بعض . وقد حكى الخطيب المنع من ذلك على القول بأن الرواية على المعنى لا تجوز، والجواز على القول بأن الرواية على المعنى تجوز، ولا فرق بينهما في ذلك. والله أعلم .

وأما ما يفعله بعضهم من إعادة ذكر الإسناد في آخر الكتاب، أو الجزء بعد ذكره أولا، فهذا لا يرفع الخلاف الذي تقدم ذكره في إفراد كل حديث بذلك الإسناد عند روايتها، لكونه لا يقع متصلا بكل واحد منها، ولكنه يفيد تأكيدا، واحتياطا، ويتضمن إجازة بالغة من أعلى أنواع الإجازات. والله أعلم .

السادس عشر : إذا روى المحدث الحديث بإسناد، ثم أتبعه بإسناد آخر، وقال عند انتهائه " مثله" فأراد الراوي عنه أن يقتصر على الإسناد الثاني، ويسوق لفظ الحديث المذكور عقيب الإسناد الأول ، فالأظهر المنع من ذلك .

وروينا عن أبي بكر الخطيب الحافظ رحمه الله قال : "كان شعبة لا يجيز ذلك ".

وقال بعض أهل العلم : يجوز ذلك، إذا عرف أن المحدث ضابط متحفظ يذهب إلى تمييز الألفاظ وعد الحروف، فإن لم يعرف ذلك منه لم يجز ذلك ، وكان غير واحد من أهل العلم إذا روى مثل هذا يورد الإسناد، ويقول: ( مثل حديث قبله متنه كذا وكذا ) ثم يسوقه . وكذلك إذا كان المحدث قد قال: (نحوه ). قال : (وهذا هو الذي أختاره ).

أخبرنا أبو أحمد عبد الوهاب بن أبي منصور علي بن علي البغداذي شيخ الشيوخ بها، بقراءتي عليه بها، قال: أنا والدي رحمه الله ، قال: أنا أبو محمد عبد الله بن محمد الصريفيني، قال: أنا أبو القاسم بن حبابة ، قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي ، قال: ثنا عمرو بن محمد الناقد ، قال: ثنا وكيع، قال : قال شعبة : " فلان عن فلان مثله " "لا يجزئ " قال وكيع : وقال سفيان الثوري : "يجزئ ".

وأما إذا قال: ( نحوه ) فهو في ذلك عند بعضهم كما إذا قال: ( مثله ).

ونبئنا بإسناد عن وكيع قال : قال سفيان: إذا قال: "نحوه " فهو حديث .

وقال شعبة ( نحوه ) شك .

وعن يحيى بن معين أنه أجاز ما قدمنا ذكره في قوله " مثله" ولم يجزه في قوله: "نحوه ".

قال الخطيب : وهذا القول على مذهب من لم يجز الرواية على المعنى . فأما على مذهب من أجازها فلا فرق بين " مثله " و" نحوه ".

قلت : هذا له تعلق بما رويناه عن مسعود بن علي السجزي أنه سمع الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول : (إن مما يلزم الحديثي من الضبط والإتقان أن يفرق بين أن يقول: " مثله " أو يقول: " نحوه " فلا يحل له أن يقول: " مثله " إلا بعد أن يعلم أنهما على لفظ واحد، ويحل أن يقول: " نحوه" إذا كان على مثل معانيه) والله أعلم .

السابع عشر : إذا ذكر الشيخ إسناد الحديث، ولم يذكر من متنه إلا طرفا، ثم قال: ( وذكر الحديث ) أو قال: ( وذكر الحديث بطوله ) فأراد الراوي عنه أن يروي عنه الحديث بكماله وبطوله، فهذا أولى بالمنع مما سبق ذكره في قوله ( مثله ) أو ( نحوه ). فطريقه أن يبين ذلك، بأن يقتص ما ذكره الشيخ على وجهه ويقول: ( قال : وذكر الحديث بطوله ) ثم يقول: ( والحديث بطوله هو كذا وكذا ) ويسوقه إلى آخره.

وسأل بعض أهل الحديث أبا إسحاق إبراهيم بن محمد الشافعي المقدم في الفقه، والأصول عن ذلك، فقال : "لا يجوز لمن سمع على هذا الوصف أن يروي الحديث بما فيه من الألفاظ على التفصيل ".

وسأل أبو بكر البرقاني الحافظ الفقيه أبا بكر الإسماعيلي الحافظ الفقيه، عمن قرأ إسناد حديث على الشيخ، ثم قال: " وذكر الحديث " هل يجوز أن يحدث بجميع الحديث ؟ فقال : إذا عرف المحدث، والقارئ ذلك الحديث، فأرجو أن يجوز ذلك، والبيان أولى أن يقول كما كان .

قلت : إذا جوزنا ذلك فالتحقيق فيه أنه بطريق الإجازة فيما لم يذكره الشيخ، لكنها إجازة أكيدة قوية من جهات عديدة، فجاز لهذا مع كون أوله سماعا إدراج الباقي عليه من غير إفراد له بلفظ الإجازة. والله أعلم .

الثامن عشر : الظاهر أنه لا يجوز تغيير ( عن النبي ) إلى ( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وكذا بالعكس، وإن جازت الرواية بالمعنى، فإن شرط ذلك أن لا يختلف المعنى، والمعنى في هذا مختلف .

وثبت عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه رأى أباه إذا كان في الكتاب ( النبي) فقال المحدث: " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ضرب وكتب " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

وقال الخطيب أبو بكر : "هذا غير لازم، وإنما استحب أحمد اتباع المحدث في لفظه، وإلا فمذهبه الترخيص في ذلك ". ثم ذكر بإسناده عن صالح بن أحمد بن حنبل، قال : قلت لأبي : يكون في الحديث: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فيجعل الإنسان " قال النبي صلى الله عليه وسلم " قال : أرجو أن لا يكون به بأس .

وذكر الخطيب بسنده عن حماد بن سلمة أنه كان يحدث، وبين يديه عفان، وبهز، فجعلا يغيران " النبي صلى الله عليه وسلم " من " رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقال لهما حماد : أما أنتما فلا تفقهان أبدا. والله أعلم .

[ ص: 720 ] [ ص: 721 ] [ ص: 722 ] [ ص: 723 ] [ ص: 724 ]

التالي السابق


[ ص: 720 ] [ ص: 721 ] [ ص: 722 ] [ ص: 723 ] [ ص: 724 ] 122 - قوله: (الظاهر أنه لا يجوز تغيير "عن النبي" إلى "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكذا بالعكس وإن جازت الرواية بالمعنى؛ فإن شرط ذلك أن لا يختلف المعنى، والمعنى في هذا مختلف) انتهى.

وفيه نظر من حيث إن المعنى لا يختلف في نسبة الحديث لقائله بأي وصف وصف من تعريفه "بالنبي" أو "رسول الله صلى الله عليه وسلم" أو نحو ذلك، فإن اختلف مدلول لفظ النبي والرسول فليس المقصود هنا بيان [ ص: 725 ] وصفه، إنما المراد تعريف القائل بأي وصف عرف به واشتهر.

وأما ما استدل به بعض من اختصر كتاب ابن الصلاح على منع ذلك من حديث البراء بن عازب في الصحيح حين علمه صلى الله عليه وسلم ما يدعو به عند النوم من قوله: "آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت" فقال البراء يستذكرهن: "وبرسولك الذي أرسلت" فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، قل: ونبيك الذي أرسلت" فليس فيه حجة على منع ذلك في الرواية؛ لأن ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ وتقدير الثواب، وربما كان في اللفظ سر ليس في لفظ آخر يرادفه، ولعله أراد الجمع بين وصفه بالنبوة والرسالة في موضع واحد، لا جرم أن النووي قال: "الصواب جوازه؛ لأنه لا يختلف [ ص: 726 ] به هنا معنى" والله أعلم.




الخدمات العلمية