الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( وقال إنني من المسلمين ) فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسان ، فيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة : أحدها : الإقرار باللسان ، والثاني : الأعمال الصالحة بالجوارح . والثالث : الاعتقاد الحق بالقلب . والرابع : الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله ، ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم ، وكمال الدرجة في هذه المراتب الأربعة ليس إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) واعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدئ من أن الله حكى عنهم أنهم قالوا : ( قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) [ فصلت : 5 ] فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة ، وعدم التأثر بدلائل محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة ، وأردفها بالوعد والوعيد ، ثم حكى عنهم شبهة أخرى ، وهي قولهم : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) [ فصلت : 26 ] وأجاب عنها أيضا بالوجوه الكثيرة ، ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمدا صلى الله عليه وسلم في أن لا يترك الدعوة إلى الله .

                                                                                                                                                                                                                                            فابتدأ أولا بأن قال : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى الله من أعظم الدرجات ، فصار [ ص: 110 ] الكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعا على أحسن وجوه الترتيب ، ثم كأن سائلا سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة ، إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به ، فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعا لهذا الإشكال فقال : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) والمراد بالحسنة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق ، والصبر على جهالة الكفار ، وترك الانتقام ، وترك الالتفات إليهم ، والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم : ( قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) وما ذكروه في قولهم : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) فكأنه قال : يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة ، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجبا للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهم بالضد من ذلك ، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعا لك من الاشتغال بهذه الحسنة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ادفع بالتي هي أحسن ) يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق ، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ، ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان ، وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضة إلى المودة ، ولما أرشد الله تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين والدنيا والآخرة عظمه ، فقال : ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) قال الزجاج : أي وما يلقى هذه الفعلة إلا الذين صبروا على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) من الفضائل النفسانية والدرجة العالية في القوة الروحانية ، فإن الاشتغال بالانتقام والدفع لا يحصل إلا بعد تأثر النفس ، وتأثر النفس من الواردات الخارجية لا يحصل إلا عند ضعف النفس ، فأما إذا كانت النفس قوية الجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية ، وإذا لم تتأثر منها لم تضعف ولم تتأذ ولم تشتغل بالانتقام ، فثبت أن هذه السيرة التي شرحناها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من قوة النفس وصفاء الجوهر وطهارة الذات .

                                                                                                                                                                                                                                            ويحتمل أن يكون المراد : وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة ، فعلى هذا الوجه قوله : ( وما يلقاها إلا الذين صبروا ) مدح بفعل الصبر ، وقوله : ( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) وعد بأعظم الحظ من الثواب .

                                                                                                                                                                                                                                            ولما ذكر هذا الطريق الكامل في دفع الغضب والانتقام ، وفي ترك الخصومة ذكر عقيبه طريقا آخر عظيم النفع أيضا في هذا الباب ، فقال : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) وهذه الآية مع ما فيها من الفوائد الجليلة مفسرة في آخر سورة الأعراف على الاستقصاء ، قال صاحب " الكشاف " : النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبه النخس ، والشيطان ينزغ الإنسان ، كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي وجعل النزغ نازغا ، كما قيل : جد جده ، أو أريد ( وإما ينزغنك ) نازغ وصفا للشيطان بالمصدر .

                                                                                                                                                                                                                                            وبالجملة فالمقصود من الآية وإن صرفك الشيطان عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن ، فاستعذ بالله من شره ، وامض على شأنك ولا تطعه ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية