الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( والسنة أن يسلم من كل ركعتين لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا رأيت أن الصبح تدركك فأوتر بواحدة } وإن جمع ركعات بتسليمة جاز لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ويوتر من ذلك بخمس يجلس في الآخرة ويسلم ، وأنه أوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام } وإن تطوع بركعة واحدة جاز ، لما روي أن عمر رضي الله عنه " مر بالمسجد فصلى ركعة فتبعه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة ؟ فقال : إنما هي تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص " ) .

                                      التالي السابق


                                      . ( الشرح ) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم ولفظه عندهما " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة " وفي رواية " فإذا خفت " وفي رواية أبي داود { صلاة الليل والنهار مثنى مثنى } وإسنادهما صحيح . وروى البيهقي بإسناده عن الإمام البخاري أنه سئل عن هذه الرواية فقال : هي صحيحة ، ولو ذكر المصنف الروايتين كان أحسن . وحديث عائشة صحيح ، بعضه في الصحيحين وبعضه في أحدهما بمعناه ففي [ ص: 541 ] رواية عنها { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها } رواه مسلم ، وفي رواية { كان يصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة ثم ينهض ولا يسلم فيصلي التاسعة ثم يسلم } رواه مسلم . وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فرواه الشافعي ثم البيهقي بإسنادين ضعيفين ، ومعنى كلامه أن التطوع يسن كونه ركعتين ولا يشترط ذلك ، بل من شاء استوفى المسنون ، ومن شاء زاد عليه فزاد على ركعتين بتسليمة ، ومن شاء نقص منه فاقتصر على ركعة .

                                      ( أما حكم المسألة ) فقال أصحابنا : التطوع هو الذي لا سبب له ولا حصر له ولا لعدد ركعات الواحدة منه ، وله أن ينوي عددا وله أن لا ينويه بل يقتصر على نية الصلاة ، فإذا شرع في تطوع ولم ينو عددا فله أن يسلم من ركعة وله أن يزيد فيجعلها ركعتين أو ثلاثا أو عشرا أو مائة أو ألفا أو غير ذلك ، ولو صلى عددا لا يعلمه ثم سلم صح بلا خلاف ، اتفق عليه أصحابنا ، ونص عليه الشافعي رحمه الله في الإملاء . وروى البيهقي بإسناده { أن أبا ذر رضي الله عنه صلى عددا كثيرا فلما سلم قال له الأحنف بن قيس رحمه الله : هل تدري انصرفت على شفع أم على وتر ؟ قال : إلا أكن أدري فإن الله يدري ، إني سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول - ثم بكى - ثم قال : إني سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة } ورواه الدارمي في مسنده بإسناد صحيح إلا رجلا اختلفوا في عدالته . وحكى صاحب التتمة وجهين فيمن نوى التطوع مطلقا : يكره له الاقتصار على ركعة بناء على أنه لو نذر صلاة هل يكفيه ركعة أم يجب ركعتان ؟ وفيه القولان المشهوران . وهذا الوجه ضعيف جدا أو غلط . وأما إذا نوى ركعة واحدة واقتصر عليها فتصح صلاته بلا خلاف ، ولو نوى عددا قليلا أو كثيرا وإن بلغت كثرته ما بلغت صحت صلاته ويستوفيه بتسليمة واحدة فإنه أكثر المنقول في الوتر ، وهذا الوجه شاذ ضعيف ، والصحيح المشهور جواز الزيادة ما شاء .

                                      قال أصحابنا : ثم إذا نوى عددا فله أن يزيد وله أن ينقص فمن أحرم بركعتين أو ركعة فله جعلها عشرا ومائة ومن أحرم بعشر أو مائة أو ركعتين فله جعلها ركعة ونحو ذلك قال أصحابنا . [ ص: 542 ] وإنما يجوز الزيادة والنقص بشرط تغيير النية قبل الزيادة والنقص ، فإن زاد أو نقص بلا تغيير النية عمدا بطلت صلاته بلا خلاف . مثاله : نوى ركعتين فقام إلى ثالثة بنية الزيادة جاز ، وإن قام بلا نية عمدا بطلت صلاته ، وإن قام ناسيا لم تبطل لكن يعود إلى القعود ويتشهد ويسجد للسهو ، فلو بدا له في القيام وأراد أن يزيد فهل يشترط العود إلى القعود ثم يقوم منه أم له المضي ؟ فيه وجهان مشهوران ( أصحهما ) الاشتراط ; لأن القيام إلى الثالثة شرط ولم يقع معتدا به ، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته ، ولو نوى ركعتين فصلى أربعا ساهيا ثم نوى إكمال صلاته أربعا صلى ركعتين آخرتين ولا يحسب ما سها به . ولو نوى أربعا ثم نوى الاقتصار على ركعتين جاز وسلم منهما ، فلو سلم قبل تغير النية عمدا بطلت صلاته ، وإن سلم سهوا أتم أربعا وسجد للسهو ، فلو أراد بعد سلامه أن يقتصر على الركعتين جاز فيسجد للسهو ويسلم ثانيا ; لأن سلامه الأول وقع سهوا فهو غير محسوب . ثم إن تطوع بركعة فلا بد من التشهد عقبها ويجلس متوركا كما سبق بيانه في بابه ، وإن زاد على ركعة فله أن يقتصر على تشهد واحد في آخر صلاته ، وهذا التشهد ركن لا بد منه ، وله أن يتشهد في كل ركعتين كما في الفرائض الرباعية .

                                      فإن كان العدد وترا فلا بد من التشهد في الآخرة أيضا ، وهذا إذا كانت صلاته أربعا ، فإن كانت ستا أو عشرا أو عشرين أو أكثر من ذلك شفعا كانت أو وترا ففيها أربعة أوجه : ( الصحيح ) الذي قطع به العراقيون وآخرون أنه يجوز أن يتشهد في كل ركعتين وإن كثرت التشهدات ، ويتشهد في الآخرة ، وله أن يقتصر على تشهد في الآخرة ، وله أن يتشهد في كل أربع أو ثلاث أو ست وغير ذلك ، ولا يجوز أن يتشهد في كل ركعة ; لأنه اختراع صورة في الصلاة لا عهد بها .

                                      ( والثاني ) لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال من الصلاة الواحدة ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من ركعتين إن كان العدد شفعا ، فإن كان وترا لم يجز بينهما أكثر من ركعة ، وبهذا الوجه قطع القاضي حسين وصاحبا التتمة والتهذيب وغيرهم ، وهو قوي ، وظاهر السنة يقتضيه . [ ص: 543 ] والثالث ) أنه لا يجلس إلا في الآخرة ، حكاه صاحبا الإبانة والبيان وهو غلط .

                                      ( والرابع ) يجوز التشهد في كل ركعتين وفي كل ركعة واختاره إمام الحرمين والغزالي وهو ضعيف أو باطل ، قال الرافعي لم يذكر هذا غير الإمام والغزالي قال : ولا خلاف في جواز الاقتصار على تشهد في آخر الصلاة ، قال : والمذهب جواز التشهد في كل ركعتين ، قال : فإن اقتصر على تشهد قرأ السورة في كل الركعات ، وإن صلى بتشهدين ففي استحباب قراءة السورة فيما بعد التشهد الأول القولان المعروفان في الفرائض ، وقد سبق بيان هذه المسألة في فصل القراءة من باب صفة الصلاة . قال أصحابنا : ولا خلاف أن الأفضل أن يسلم من كل ركعتين في نوافل الليل والنهار ، وقد تكرر بيان هذا في مواضع سبقت وبالله التوفيق . .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في ذلك : قد ذكرنا أنه يجوز عندنا أن يجمع ركعات كثيرة من النوافل المطلقة بتسليمة وأن الأفضل في صلاة الليل والنهار أن يسلم من كل ركعتين ، وبهذا قال مالك وأحمد وداود وابن المنذر وحكي عن الحسن البصري وسعيد بن جبير وقال أبو حنيفة التسليم من ركعتين أو أربع في صلاة النهار سواء في الفضيلة ولا يزيد على ذلك . وصلاة الليل ركعتان وأربع وست وثمان بتسليمة ولا يزيد على ثمان ، وكان ابن عمر يصلي بالنهار أربعا واختاره إسحاق




                                      الخدمات العلمية