الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
وعن ابن عباس مرفوعا { : من أطعمه الله طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ، ومن سقاه الله لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزئ مكان الطعام والشراب غير اللبن } رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه .

وفي هذا فضيلة اللبن وكثرة خيره ونفعه وقال بعضهم : هو أنفع مشروب للآدمي لموافقته للفطرة الأصلية واعتياده في الصغر ، ولاجتماع التغذية والدموية فيه .

وقد قال تعالى : [ ص: 216 ] { لبنا خالصا سائغا للشاربين } .

وقال عن الجنة : { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } .

وقد قال الأطباء : اللبن مركب من مائية وجبنية ودسومة وهي الزبدية ، وأجوده الشديد البياض المعتدل القوام في الرقة والغلظ ، والمحلوب من حيوان صحيح معتدل اللحم محمود المرعى والمشرب ، ويستعمل عقب ما يحلب ، وأصلح الألبان للإنسان لبن النساء وما يشرب من الضرع ، وأفضله ما يثبت على الظفر فلا يسيل ولا يكون فيه طعم غريب إلى حموضة أو مرارة أو حرافة أو رائحة كريهة قال بعضهم : أو غريبة وهو بارد رطب ، والحليب أقل بردا من غيره وقيل مائيته حارة ملطفة غسالة بغير لدغ ، وجزم بعض الأطباء بهذا القول .

وقال بعضهم : اللبن عند حلبه معتدل في الحرارة والرطوبة وزبديته إلى الاعتدال وإن مالت إلى حرارة جملته ، معتدل يقوي البدن ، وهو محمود يولد دما جيدا ويغذو غذاء جيدا ويزيد في الدماغ لا سيما لبن النساء ، واللبن ينهضم قريبا لتولده من دم في غاية الانهضام طرأ عليه هضم آخر وينبغي إذا شرب اللبن أن يسكن عليه لئلا يفسد ولا ينام عليه ولا يتناول عليه غذاء آخر إلى أن ينحدر ، وينفع من الوسواس والغم والأمراض السوداوية ، وهو أنفع شيء لأصحاب المزاج الحار اليابس إذا لم يكن في معدهم صفراء ويزيل الحكة التي بالمشايخ ويعانون على هضمه بالعسل أو بالسكر ، وأجود أوقات أخذه وسط الصيف لاعتدال الألبان في الغلظ واللطافة ولكن يخاف عليه أن يحليه الحر بعد الشرب ولا يخاف ذلك في الربيع ، ويجلو الآثار القبيحة في الجلد طلاء ، وشربه بالسكر يحسن جدا لا سيما للنساء ويسمن حتى أن ماء الجبن يسمن أصحاب المزاج الحار اليابس إذا جلسوا فيه وينفع من الحكة والجرب ويهيج الجماع وإذا شرب مع العسل نقى القروح الباطنة في الأخلاط الغليظة وأنضجها .

واللبن ينفع من السجح وشرب الأدوية القتالة ويرد عقل من سقي البنج ويستحيل في المعدة الصفراوية إلى الصفراء ويورث السدد في الكبد ويضر أصحاب سيلان الدم والحليب يتدارك ضرر الجماع ، ويوافق الصدر والرئة جيدا لأصحاب السل رديء للرأس والمعدة والكبد والطحال . [ ص: 217 ]

وليس شيء أضر للبدن من لبن فاسد رديء واللبن إذا أكثر منه تولد منه القمل والبرص إلا لبن الإبل فإنه قل ما يخاف منه البرص . واللبن رديء للمحمومين وأصحاب الصداع مؤذ للدماغ والرأس الضعيف ضار للأورام الباطنة والأعصاب والأمراض البلغمية وباللثة والأسنان ، قالوا : وينبغي أن يتمضمض بعده لأجل اللثة بالعسل ، ويظلم البصر ويضر بالغشاء والخفقان والحصاة ووجع المفاصل والأحشاء وينفخ المعدة ويذهب بنفخه أن يغلى ويؤكل بعده المشمش قال بعضهم : أو عسل أو زنجبيل ومن اعتاده فليس كمن لم يعتده .

وإن جمد اللبن لإنفحة شربت فيه أو غير ذلك عرض عنه عرق بارد وغثى وحمى نافض وجموده مع إنفحة أردأ وأسرع إلى الحنق وينبغي أن يجتنب الملوحات فإنها تزيده تجبنا ولكن ينبغي أن يسقى خلا ممزوجا بماء ويسقى من الإنفحة إلى مثقال فإنها ترققه وتخرجه بقيء أو إسهال .

واللبن المطبوخ والملقى فيه الحصا المحمي والحديد يعقل البطن واللبن الحامض أجوده الكثير الزبد فإن أخذ زبده وحمض فهو المخيض ، وإن نزع زبده ومائيته فهو اللدوغ وهو بارد يابس وقيل رطب وهو يوافق الأمزجة الحارة ولكنه جام الخلط بطيء الاستمراء مضر باللثة والأسنان وللدماغ ينفع المعدة الحارة ، والمخيض لا يجشئ جشاء دخانيا لانتزاع زبده ويحبس الإسهال الصفراوي والدموي ويسكن العطش .

وينبغي أن يتمضمض بماء العسل حتى لا يضر باللثة فإن استحال اللبن الحامض إلى كيفية عفنة أخرى مع الحموضة تولد عنه دوار وغشيان ومغص في فم المعدة وربما عرضت عنه هيضة قاتلة وينبغي أن يداوى بالقيء وتنظيف المعدة منه بماء العسل [ ص: 218 ] فأما أنواع اللبن فلبن اللقاح سبق الكلام فيه في فصل التداوي بالمحرمات من فصول الطب ولبن البقر أكثر الألبان دسومة وغلظا وأكثر غذاء من سائر الألبان وأبطأ انحدارا ذكره ابن جزلة وذكر غيره أنه يلين البدن ويطلقه باعتدال وإنه من أعدل الألبان وأفضلها بين لبن الضأن ولبن المعز في الرقة والغلظ والدسم وقد سبق الحديث فيه في فصل حفظ الصحة من الطب .

ولبن المعز معتدل لاعتدال المائية والجبنية والزبدية فيه ينفع من النوازل ويحبسها من قروح الحلق واللسان عن اليبس والغم والوسواس والسعال ونفث الدم والسل بكسر السين وهو السلال يقال أسله الله فهو مسلول وهو من الشواذ . والغرغرة به تنفع من الخوانيق وأورام اللهاة وقروح المثانة وقيل : إنه مضر بالأحشاء .

ولبن الضأن دسم غليظ كثير الجبنية والزبدية وقال بعضهم : هو أغلظ الألبان وأرطبها ينفع من نفث الدم وقروح الرئة ويتدارك ضرر الجماع ويقوي على الباه وينفع من الأدوية القتالة والزحير وقروح الأمعاء ليس محمودا كلبن المعز وفيه تهييج للقولنج ويولد فضولا بلغمية ويحدث في جلد من أدمنه بياضا قال بعضهم : ينبغي أن يشاب بالماء ليقل البدن ما ناله ويكثر تبريده ويسرع تسكينه للعطش .

لبن الخيل قليل الجبنية والزبدية يعدل لبن اللقاح في ذلك لبن النساء يدر البول وهو ترياق الأرنب البحري وينفع من الرمد إذا حلب في العين ومن خشونة العين خاصة مع بياض البيض وينفع من السل إذا شرب حين يخرج من الثدي أو يمص من الثدي ولكن من امرأة صحيحة البدن معتدلة البدن وينفع من أورام الآذان وقروحها والله أعلم . وسبق الكلام في الجبن في ذكر المفردات .

التالي السابق


الخدمات العلمية