الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      جعفر بن سليمان : عن يزيد الرشك ، قال : حدثني من شافه الحسين قال : رأيت أبنية مضروبة للحسين ، فأتيت ، فإذا شيخ يقرأ القرآن ، والدموع تسيل على خديه ، فقلت : بأبي وأمي يا ابن رسول الله ! ما أنزلك [ ص: 306 ] هذه البلاد والفلاة ؟ قال : هذه كتب أهل الكوفة إلي ، ولا أراهم إلا قاتلي ، فإذا فعلوا ذلك ، لم يدعوا لله حرمة إلا انتهكوها ، فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة . يعني : مقنعتها . المدائني : عن الحسن بن دينار ، عن معاوية بن قرة ، قال : قال الحسين : والله ليعتدين علي كما اعتدت بنو إسرائيل في السبت .

                                                                                      أحمد بن جناب المصيصي : حدثنا خالد بن يزيد القسري ، حدثنا عمار الدهني : قلت لأبي جعفر الباقر : حدثني بقتل الحسين . فقال : مات معاوية ، فأرسل الوليد بن عتبة والي المدينة إلى الحسين ليبايع ، فقال : أخرني ، ورفق به ، فأخره ، فخرج إلى مكة ، فأتاه رسل أهل الكوفة ، وعليها النعمان بن بشير ، فبعث الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل : أن سر ، فانظر ما كتبوا به ، فأخذ مسلم دليلين وسار ، فعطشوا في البريه ، فمات أحدهما .

                                                                                      وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه ، فكتب إليه : امض إلى الكوفة ، ولم يعفه ، فقدمها ، فنزل على عوسجة ، فدب إليه أهل الكوفة ، فبايعه اثنا عشر ألفا . فقام عبيد الله بن مسلم ؛ فقال للنعمان : إنك لضعيف ! قال : لأن أكون ضعيفا أحب إلي من أن أكون قويا في معصية الله ، وما كنت لأهتك سترا ستره الله . وكتب بقوله إلى يزيد ، وكان يزيد ساخطا على عبيد الله بن زياد ، فكتب إليه برضاه عنه ، وأنه ولاه الكوفة مضافا إلى البصرة . وكتب إليه أن يقتل مسلما . فأسرع عبيد الله في وجوه أهل البصرة إلى الكوفة متلثما ، فلا يمر بمجلس ، فيسلم عليهم . إلا قالوا : وعليك . [ ص: 307 ] السلام يا ابن رسول الله ، يظنونه الحسين . فنزل القصر ؛ ثم دعا مولى له ، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وقال : اذهب حتى تسأل عن الذي يبايع أهل الكوفة ، فقل : أنا غريب ، جئت بهذا المال يتقوى به ، فخرج ، وتلطف حتى دخل على شيخ يلي البيعة ، فأدخله على مسلم ، وأعطاه الدراهم ، وبايعه ، ورجع ، فأخبر عبيد الله .

                                                                                      وتحول مسلم إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، فقال عبيد الله : ما بال هانئ لم يأتنا ؟ فخرج إليه محمد بن الأشعث وغيره ، فقالوا : إن الأمير قد ذكرك فركب معهم ، وأتاه وعنده شريح القاضي ، فقال عبيد الله : أتتك بحائن رجلاه . فلما سلم ، قال : يا هانئ أين مسلم ؟ قال : ما أدري ؛ فخرج إليه صاحب الدراهم ، فلما رآه ، قطع به ، وقال : أيها الأمير ! والله ما دعوته إلى منزلي ، ولكنه جاء ، فرمى نفسه علي . قال : ائتني به . قال : والله لو كان تحت قدمي ، ما رفعتهما عنه ، فضربه بعصا ، فشجه ، فأهوى هانئ إلى سيف شرطي يستله ، فمنعه . وقال : قد حل دمك ، وسجنه . فطار الخبر إلى مذحج ، فإذا على باب القصر جلبة ، وبلغ مسلما الخبر ، فنادى بشعاره ، فاجتمع إليه أربعون ألفا ، فعبأهم ، وقصد القصر ، فبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة ، فجمعهم عنده ، وأمرهم ، فأشرفوا من القصر على عشائرهم ، فجعلوا يكلمونهم ، فجعلوا يتسللون حتى بقي مسلم في خمسمائة ، وقد كان كتب إلى الحسين ليسرع ، فلما دخل الليل ، ذهب أولئك ، حتى بقي مسلم وحده يتردد في الطرق ، فأتى بيتا ! فخرجت إليه امرأة ، فقال : اسقني ، فسقته . ثم دخلت ، ومكثت ما شاء الله ، ثم خرجت ، فإذا به على الباب ، فقالت : يا هذا ، إن مجلسك مجلس ريبة ، [ ص: 308 ] فقم ؛ فقال : أنا مسلم بن عقيل ، فهل عندك مأوى ؟ قالت : نعم . فأدخلته ، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث ، فانطلق إلى مولاه ، فأعلمه ، فبعث عبيد الله الشرط إلى مسلم ؛ فخرج ، وسل سيفه ، وقاتل ، فأعطاه ابن الأشعث أمانا ، فسلم نفسه ، فجاء به إلى عبيد الله ، فضرب عنقه وألقاه إلى الناس ، وقتل هانئا ؛ فقال الشاعر

                                                                                      فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري إلى هانئ في السوق وابن عقيل     أصابهما أمر الأمير فأصبحا
                                                                                      أحاديث من يسعى بكل سبيل     أيركب أسماء الهماليج آمنا
                                                                                      وقد طلبته مذحج بقتيل



                                                                                      يعني : أسماء بن خارجة .

                                                                                      قال : وأقبل حسين على كتاب مسلم ، حتى إذا كان على ساعة من القادسية ، لقيه رجل ؛ فقال للحسين : ارجع ، لم أدع لك ورائي خيرا ، فهم أن يرجع . فقال إخوة مسلم : والله لا نرجع حتى نأخذ بالثأر ، أو نقتل ؛ فقال : لا خير في الحياة بعدكم . وسار . فلقيته خيل عبيد الله ، فعدل إلى كربلاء ، وأسند ظهره إلى قصميا حتى لا يقاتل إلا من وجه واحد ، وكان معه خمسة وأربعون فارسا ونحو من مائة راجل .

                                                                                      وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص - وقد ولاه عبيد الله بن زياد على العسكر - وطلب من عبيد الله أن يعفيه من ذلك ، فأبى ، فقال الحسين : اختاروا واحدة من ثلاث ؛ إما أن تدعوني ، فألحق بالثغور ؛ وإما أن أذهب إلى يزيد ، أو أرد إلى المدينة . فقبل عمر ذلك ، وكتب به إلى عبيد الله ، فكتب إليه : لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي . فقال الحسين : لا والله ! وقاتل ، فقتل أصحابه ، منهم بضعة عشر شابا من أهل بيته . [ ص: 309 ]

                                                                                      قال : ويجئ سهم ، فيقع بابن له صغير ، فجعل يمسح الدم عنه ، ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قومنا ، دعونا لينصرونا ، ثم يقتلوننا . ثم قاتل حتى قتل . قتله رجل مذحجي ، وحز رأسه ، ومضى به إلى عبيد الله ، فقال :

                                                                                      أوقر ركابي ذهبا     فقد قتلت الملك المحجبا




                                                                                      قتلت خير الناس أما وأبا

                                                                                      فوفده إلى يزيد ومعه الرأس ، فوضع بين يديه ، وعنده أبو برزة الأسلمي ؛ فجعل يزيد ينكت بالقضيب على فيه ،

                                                                                      ويقول نفلق هاما من أناس أعزة     علينا وهم كانوا أعق وأظلما



                                                                                      كذا قال أبو برزة . وإنما المحفوظ أن ذلك كان عند عبيد الله .

                                                                                      قال : فقال أبو برزة : ارفع قضيبك ؛ لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاه على فيه .

                                                                                      قال : وسرح عمر بن سعد بحريمه وعياله إلى عبيد الله . ولم يكن بقي منهم إلا غلام كان مريضا مع النساء ، فأمر به عبيد الله ليقتل ، فطرحت عمته زينب نفسها عليه ، وقالت : لا يقتل حتى تقتلوني ، فرق لها ، وجهزهم إلى الشام ، فلما قدموا على يزيد ، جمع من كان بحضرته ، وهنئوه ؛ فقام رجل [ ص: 310 ] أحمر أزرق ، ونظر إلى صبية منهم ، فقال : هبها لي يا أمير المؤمنين ، فقالت زينب : لا ولا كرامة لك إلا أن تخرج من دين الله . فقال له يزيد : كف . ثم أدخلهم إلى عياله ، فجهزهم ، وحملهم إلى المدينة .

                                                                                      إلى هنا عن أحمد بن جناب .

                                                                                      الزبير : حدثنا محمد بن حسن : لما نزل عمر بن سعد بالحسين ، خطب . أصحابه ، وقال : قد نزل بنا ما ترون ، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت ، وأدبر معروفها ، واستمرئت حتى لم يبق منها إلا كصبابة الإناء ، وإلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون الحق لا يعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله . إني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا ندما .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية